الجمعة، 28 يونيو 2013

نقد المجتمع البطريكي العربي

نشرت هذه الدراسة للأستاذ موليم العروسي، في الموسوعة العربية التي أشرف عليها الأستاذ عبد الإله بلقزيز  والصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان" الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة أولية"  رفقة دراستين واحدة عن التفكيكية عند الخطيبي وواحدة حول الفن سننشرهما بالتتابع بشكل خاص على موقع منتدى الفكر الحر

الدراسة
من أهم الإشكاليات التي طرحت على الفكر العربي المعاصر ابتداء من السنوات السبعين للقرن الماضي مشكلية العقلية البطريكية في البنية الاجتماعية السياسية الاقتصادية والثقافية. وإذا كان يمكن للخطاب وللإنتاج الاقتصادي بل وحتى الثقافي امكانية التلون بلون العصر فإن النتائج السياسية تكون مجلى للعوائق اللاوعية المترسبة عن الماضي وبناه القديمة. من هذا المنظور يصبح النقد الموجه لبعض الممارسات البالية في حياتنا اليومية ابعد ما يكون عن الترف الفكري والسجال العقدي .
البنية البطريكية إذن رغم انتهائها تاريخيا ، لازالت تقف عائقا أمام تحول المجتمع العربي. لماذا لم ننتقل إلى الدولة القومية الاجتماعية؟ لمادا عوض أن نمحو هزيمة 1948 أضفنا إليها هزيمة 1967؟ لماذا عوض ان نقف موقف الند للند في مواجهة العدو،استسلمنا إلى انبطاح السادات في كامب ديقيد ؟ السبب يوجد في هذه البنية البطريكية التي استطاعت ان تتلون بالحداثة دون ان تتحول في جوهرها العميق، وضعف هذه البنية ، حسب هشام شرابي، هي ركيزة النظام البطريكي، المرأة. فمادامت المرأة خاضعة خانعة ، وما دامت هكذا فلن تجدي لا الثورات ولا تغير نظم الحكم .

وفعلا فإن الأمر قد يمتد الى المناضل الطبقي نفسه،ذلك الحامل لا يديولوجيا التغيير والفاعل مجتمعيا." أن نتحدث عن الصراع الطبقي ، عن ديكتاتورية البروليتاريا ، عن الجنة الاشتراكية، هذا حديث مباح في جنة الأسلاف . يحلم المناضل بالصراع الطبقي في الاجتماعات لكنه لا يقبل ان تعبر زوجته عن رأي مخالف لرأيه" حسب فاطمة المرنيسي .

هذه الاختلالات وهذه العوائق الشاخصة امام الانتقال، جعلت المفكرين العرب المعاصرين، نساءا ورجالا، يتجهون بالنقد إلى هذه البنية الذهنية لتشخيصها اولا ، تم لتفكيكها واعادتها الى اصولها. وبما ان الحلقة الأساسية في هذه البنية هي المرأة فكان من الشروع أن ينكب النقاش حولها .

من الصعب أن ننكر المجهودات التي بذلت في سبيل تحرير المرأة من القيود التقليدية والعادات المتحجرة، من الصعب، ونحن بصدد الحديث عن المرأة، أن ننكر كتابات قاسم أمين في بداية القرن العشرين والطاهر حداد في الثلاثينات منه. قولنا هذا لا يعني أن مفكري العرب المعاصرين لم يأخذوا كل هذه المجهودات بعين الاعتبار بل لقد تعرضوا لها بالتخليل والنقد مبينين ما اعتراها من خلل وما جعل منها تمنيات لم تأت بالشيء الكثير . إن أفكار قاسم أمين السابقة لآوانها بقيت مع ذلك مشدودة إلى البنية الذكورية العربية أي تلك التي تخاف على المرأة وتحاول أن تحيطها بعدد من الممنوعات التي تعتقد انها في صالحها. لم تتعرض هذه الكتابات للمرأة كفرد مستقل بداته لا يخضع لأية وصاية ذكورية .

قد يكون من المجحف أن نضع في خانة واحدة كل ما كتبه قاسم أمين مع ما كتبة الطاهر الحداد وذلك لسببين أولاهما الفارق الزمني، لقد صدر تحرير المرأة سنة 1900 ، بينما صدر كتاب" أمرأتنا في ضوء الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد سنة ،1930 ثلاثون سنة كان العالم العربي بأكمله قد انخرط في الاستعمار والتبعية الكاملة وكان من اللازم تبرير ما فهم على انه انتقال آنذاك من بنية تقليدية الى بنية حداثية . الأمر الثاني هو أن الطاهر حداد متقدم في طرحه لمشكلة الاستقلال الداتي للمرأة ويظهر ذلك من طرحه لها من خلال عدة ظواهر وعادات تعتبر مؤسسة في مجتمعاتنا العربية، من ذلك الحب والزواج والاختيار .

ويلتقي كلا المؤلفين عند ضرورة تربية المرأة لضمان التحكم في الانتقال من التمسك بقديمنا إلى ضبط الجديد. وبتربيتنا للمرأة سوف ندفع الرجل الى التنازل عن نفسيته القديمة واعتبار المرأة شريكا مساويا في الحياة وهكذا تظهر اوجه التحسن في الحياة العائلية . إن كلاما كهذا يقصر المؤسسة على الزوجين ويحاول ابعاد العائلة أو العشيرة عن التدخل في شؤونهما، وهذا الاستقلال بالقرار عند الزوجين ، يجب أن يبدأ قبل الزواج إذ يجب أن يكون هناك حب حتى ولو كان الزواج مصلحة مشتركة فإنه يجب أن يكون نتيجة ضرورية للحب المتبادل .

إذا كان أساس الحياة الزوجية هو الحب والاستقرار وجب إعطاء الشباب حقهم في اختيار الأزواج وعدم ترك ذلك للأولياء إن الحياة الزوجية حقيقة ركناها الزوجان فهي هما ولهما وبهما تتم فليس من المعقول أن تكون من حق غيرهما. يجوز للأولياء إسداء النصح لكن الأمر يعود أولا وأخيرا للزوجين " نريد من المرأة إن تشعر بعزة نفسها وشرف منزلها وكرامة قومها فتعمل في المنزل او خارج المنزل ما يؤيد هذا الشعور ويجعله حيا خالدا ينتقل في الأبناء" (الطاهر حداد الأعمال الكاملة ). من اجل هذا يجب أن يتنفى الزواج بالإكراه ويحل محله الحب أو الإقناع والتفاهم علينا أن نتخلص من أفكارنا البالية الآتية من ظلمات القرون الغابرة ونعتبر المرأة عضوا حيا شريكا لنا في الحياة .

لم يكن لهذا الرأي مناصرون كثيرون وهوجم كتاب "آمراتنا في ضوء الشريعة والمجتمع" بعد صدوره سنة 1930 باسم الأخلاق والدين مما جعل المؤلف ينتهز فرصة تكريمه بمناسبة صدور الكتاب يوم 17 اكتوبر 1930 ليقول " ان كراهيتنا للمرأة قديمة في تاريخنا فالحديث عنها كإنسان رشيد يثير تلك الكراهية وليس لنا سلاح نحارب به قضايا المرأة إلا الدين الذي حاربناه في جوهره ومعناه وسخرنا منه في سيرتنا واعمالنا وبقينا متعصبين له في شكله المخلوق من عنصر يتنا وعاداتنا ( الطهر حداد الأعمال الكاملة ) .

إذا كان الطاهر حداد قد انتقل بالمشكل من مجرد طرح السفوروالحجاب وتصرف المرأة الأخلاقي الى نقد للمؤسسة البطريكية، فإنه في نظر المفكرين الجدد وخصوصا الكتابات التي ظهرت سبعين سنة بعد صدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" ، بقي محافظا على الذهنية الذكورية البطركية التقليدية للرجل العربي. هناك وصاية على جسد المرأة على علاقتها بمفهوم الجسد والحرية الجنسية.

إن الأساس الذي يرتكز عليه توازن الأسرة بالنسبة للطاهرحداد هو الحب، لكن هذا الحب في نظر نوال السعداوي غير ممكن لأنه " حب بين صاحب سلطة وخاضع للسلطة أو بين أقوى واضعف او بين أعلى وأدنى... إن الذي حدث في التاريخ هو تلك  النكسة الانسانية  التي جعلت جنسا يسود على الجنس الأخر وفقدت العلاقة بين الرجال والنساء تكافؤها الطبيعي (...) بفقدان هذا التكافؤ لم يعد من الممكن أن تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة بسبب الحب الحقيقي وانما لأسباب اخرى متعددة ( المرأة والجنس ) .

لمعرفة هذه الأسباب لزم الرجوع إلى التاريخ. هذا لا يعني أن كل من تكلموا عن المرأة لم يكن للتاريخ دورفي حديثهم، انهم لم بتناولوا التاريخ من الوجهة الاصح، على الاقل في نظر السعداوي وفي نظر كل من تكلم بعدها عن المرأة والعقلية البطركية .إن الاهتمام بالتاريخ من وجهة المادية الجدلية هو الذي جعل هؤلاء المفكرين يكتشفون أن اختلال التوازن بين الجنسين لم يتم لا على المستوى البيولوجي الطبيعي والأخلاقي الديني او البيولوجي الاسطوري إلا لأنه تم أولا على مستوى الاقتصاد وتقسيم العمل. هذا الصراع الذي دارت رحاه بين الطبقات خلال التاريخ فقدت فيه الانثى مكانتها بجانب الرجل وأصبحت كما تقول نوال السعداوي الأضعف والأدنى .
قراءة التاريخ من هذه الزاوية لم تكن متاحة في العالم العربي قبل هذا التاريخ أي داك الذي اشرنا اليه في بداية هذا الحديث ( سنوات الستين والسبعين من القرن العشرين ). أضف الى ذلك أن غياب الديمقراطية والحرية الحقيقية في الحياة السياسية العربية كانت من أهم العقبات أمام الباحثين والباحثات في هذا المجال .
ولا غرابة في ان نجد هذه المعرفة التي تم تحريمها بوضوح في أول الأديان السماوية ألا وهو دين اليهودية قد ارتبطت بشيطانية المرأة وبتركيز السلطة الذكورية ." كانت حواء او المرأة هي التي أكلت الثمرة المحرمة فوق شجرة المعرفة وتمت ادانتها وعقابها وليست وحدها ( حواء ) وانما الجنس كله او سلالتها جميعا بنات حواء" تؤكد نوال السعداوي. من هنا رسخت الصورة، المرأة شيطان، المرأة دنس، (على أساس أنها تحيض ودم الحيض نجاسة) وفي المقابل أصبح الرجل مقدسا وممثلا لله فوق الارض. لقد قبل الله توبه آدم ولم يقبل توبة حواء .

نفهم إذن من كلام  الدكتورة نوال السعداوي ان أساس اللاتوازن بين الجنسين تاريخي قديم وان أساسه المادي صراع طبقي وبنيته الفوقية التي تدعمه هي الدين والأخلاق التي تترجم فيما بعد الى سياسة وقوانين ( المسموح والمحظور والواجب والمباح ) كما نفهم من كلامها كذلك ان أول ترجمة للفكر الذكوري وسيطرته تمت داخل الديانة اليهودية. لاغرابة إذن اذا رجعت الكاتبة الى الثقافة المصرية القديمة . فهي لم تعد الى الماضي لتدافع عن المساوة المبدئية بين الرجل والمرأة فقط بدافع التشبه بالآخر، أي الغرب كما كان يقول مناوؤها، وانما عادت الى التاريخ لتعطي أدلة من صميم الحضارة المصرية ومما سهل ماموريتها هو بروز الديانة اليهودية من واقع الثقافة المصرية الفرعونية نفسها .
إن ازالة الحجب عن البيولوجيا وارجاعها الى الواقع يظهر لنا الأنثى كانت هي الأصل. ولا يتأتى ذلك اكثر مما نصادفه في الثراث المصري وخصوصا فيما يمكن ان نسيمه ثقافتة الدينية. ففي البدء تجلت وحدة السماء والارض بفعل فلسفة ايزيس وأمها نوت وجدتها نون وبفضل هذا التوحد ازدهر الكون ونما الخير وتم توزيعه على جميع الناس بالعدل لم يكن هناك نظام العبودية المبني على التفرقة الأعلى( السلطة الميتافريقا الاله والمرموز اليهما بالسماء) والأسفل( المرأة العبيد والمرموز اليها بالارض) .
لكن وكما أشرنا، ودائما من خلال انتاج نوال السعداوي، كانت الفلسفة والسياسة والمعتقدات أمية تابعة للأم وكذلك النسل والحرث, سوف يحدث انقلاب على اساس الصراع حول امتلاك الحكم والارض، سوف يعاد النظر في الخصوبة وعبادتها وسوف يتم الترميز الى اعادة النظر هاته بحدث هام في تاريخ الانسانية وهو مجيئ الاله أوزوريس الى الوجود مولدا نفسه بنفسه دون الحاجة الى أمه نوت. حادثة سوف تكررها جميع الميثولوجيات بعد ذلك، سوف نرى أن أفروديت النبيلة ولدت من جرح في ساق ابيها وأن أفردويت الخسيسة أو الشعبية ولدت من نكاح بين ذكر وأنثى في الميتولوجيا الاغريقية في هذا الصراع انهزمت الأغلبية الشعبية بقوة السلاح وعضلات الذكور .
وأصبح الاله يتنكر في زي ذكر. على أن هناك فترة انتقالية مثلها حكم أخناتون الذي كان يجمع بين الخاصيتين، الذكر و الأنثى. هذا الانقلاب سوف يكرس داخل الثوراة كإديولوجية جديدة و سوف تحارب على أساسها عبادة الشمس كآلهة معوضة بإلاه ذكر سوف يتدرج عبر العصور ليصبح الوجه البطريكي القاسي الذي نعرفه اليوم.
لم تستسلم النساء لهذه الوضعية و الدليل على ذلك هو استمرار عبادة ايزيس إلى حدود القرن السادس الميلادي، ففي هذا التاريخ اضطر الإمبراطور جوستنيان الى تهديم معابد هذه الآلهة رمز أيام حكم المرأة. لكن قبل ذلك بقرون عديدة قامت ثورة شعبية قادها رجال و نساء  سنة 1260 قبل الميلاد و كانت تهدف الى إعادة الأمور الى نصابها، ولقد نجحت بالفعل و أقامت العدل لكن ما لبث أن عاد البطش و الطغيان عام 1094 قبل الميلاد و سيطر بعده منظرو العبودية الذين وضعوا أسس الأخلاق و مبادئ الديانات. هذه الأنظمة الفكرية و العقدية التي تشير الى الرق هي نفسها التي تؤكد أن جنس الذكور أقل درجة من جنس النساء.
وضعت هذه الأنساق العقدية و الفكرية  إطارا خاصا بالمرأة يجعلها بضاعة أو ملكا للرجل كما هي البهيمة. و لذا أمكنت مبادلتها و بيعها و شراؤها و اختطافها. وككل بضاعة يصعب اقتسامها، فإن عددا من القيود وضعت لحمايتها كبضاعة و حماية رغباتها من الخروج عن الاطار القانوني الذي وضعه الرجل فيما يخص جسدها و فكرها ويحول دون استقلالها الذاتي.
هذه القيود الأخلاقية و الدينية ومن تم السياسية كانت محط نقد جدري من طرف المفكرين العرب المعاصرين من أمثال المؤلفة التي نحن بصددها و من أمثال فاطمة المرنيسي و هشام شرابي كما سنرى لاحقا. و لنقد هذه المفاهيم، كان لابد من العودة إلى البيئة الفكرية التي تمدها بالاستمرارية و الديمومة ألا وهي الدين. و هنا أيضا تفرق نوال السعداوي بين الدين كما هو موجود في النصوص و الكتب القديمة و الذي يستحود على تفسيرها و تأويلها قلة من الرجال دوي اللحي الطويلة أو القصيرة، والذين كما يفهمه والدها و جدتها أي أن الله هو العدل و الحرية و المساواة بين البشر لا فرق بين حاكم و محكوم.
لكن مع الأسف  لاتأخد المدرسة الشائعة في الدين الاسلامي من الدين إلا ما يؤكد التفرقة بين البشر على أساس الجنس أو العقيدة أو العرق. ليس هذا هو الاسلام إنما الإسلام كما فهمته من والدها هو تنزيل النص على الواقع . من هذا المنظور ترى الدكتورة   نوال السعداوي أن ارتباط السلطة السياسية بالسلطة الدينية وثيق: فكما أن الدول الرأسمالية تسلب الشعوب كرامتها حتى تصبح هذه الأخيرة عالة على الأولى فكذلك حدث للمرأة، حرمت من العمل المنتج بأجر حتى تظل عالة على زوجها و يظل هو سيدها و الوصي عليها( المرأة و الدين و الأخلاق.)
التأويل الديني من طرف الذكور يحاول أن يقنن كل حياة المرأة ويفضي هدا بالضرورة الى فضاعات لاإنسانية. أصبح صلاح المرأة و شرفها و أخلاقها مرتبط بغشاء رقيق يجب أن يحاط بعناية فائقة حتى تسلم المرأة إلى زوجها الشرعي. الحديث هنا عن البكارة و ما إن تفتض بكارة المرأة من طرف زوجها المالك الوحيد لها حتى تصبح محط شبهات و يصبح بإمكانها منح المتعة لأي كان إذا لم يكن هناك رقيب . هنا تتعدد أساليب الرقابة، فمن الخطاب التخويفي و الترهيبي الذي يصف عدابات المرأة الخائنة يوم القيامة الى اجراءات مادية من الإغلاق الى وضع الأقفال على المهبل.
هذه الرقابة المذلة للمرأة تبلغ مداها في الهجوم على جسدها بطريقة بشعة. هكذا يتحول الختان الذي هو عادة عند اليهود إلى مسلمة دينية عند المسلمين و ينتقل من الرجل إلى المرأة. و يبني الخطاب الديني التقليدي حججه على أساس أن للختان دور صحي بالنسبة للرجل فهو ينظف قضيبه و يؤجج شهوته الجنسية، وهو مفيد للمرأة لأنه يحميها من الرغبة الجنسية المتأججة . هكذا سوف نجد في مقابل ذكر يشتعل غلمة امرأة لا تمثل الا ثقبا مبتورا في جسد يظن الرجل أنه بدون رغبة جنسية. "أيمكن أن يضع الله في تناقض بحيث يخلق عضوا ثم يأمر ببتره؟" تتساءل نوال السعداوي.
هذه الحواجز ضد حرية المرأة الجنسية و السياسية و الثقافية و الفردية توجد في أساس اطروحات فاطمة المرنيسي. إن الرجل و هو يضع القيود و يبتر الأعضاء  
الشبقية للمرأة ليفعل ذلك بدافع الخوف. إن الأمر يتعلق بالغرائز و ضبطها.وحتى نفهم ذلك تلجأ فاطمة المرنيسي إلى المقارنة بين حضارة تهضم القمع الجنسي ) الغرب( و حضارة تضع الحواجز الخارجية لكبحه مثل ) المفهوم الشرقي للإسلام(. و تلاحظ أن المجتمعات التي تزداد فيها مراقبة المرأة تكون الممارسة الجنسية عند هده الأخيرة جد نشطة. وهذا يتعلق بالمرأة العربية الإسلامية حسب المفهوم اللاهوتي الإسلامي .إن الغرب الذي هضم القمع الجنسي دينيا يعبر عن ذلك من منطلق فرويد وهو يتحدث عن النشاط الجنسي السلبي عند المرأة :فإنه يتوجه إلى الداخل و يصبح ممارسة مازوخية . في المقابل يعتبر الغزالي أن الجنس عند المرأة العربية الإسلامية نشط و إيجابي و لذا فإنه يتوجه إلى الخارج. هنا تكمن المشكلة و هنا وجب الخوف من المرأة العربية لأنها تهجم على الرجل و تحتله جنسيا. و هذا حسب المؤلفة نابع من الفرق بين الغرب المسيحي الذي يحتقر الجسد وهواجسه و الشرق الإسلامي الذي يضع الشركل الشر في المرأة.
من هنا انتبه اللاهوت إلى الحيل التي يجب التعامل بها مع المرأة العربية الإسلامية. اتجه الفكر الديني إلى إذلال المرأة وإظهارها بمظهر تلك التي لا تكفي زوجها و لذا وجب الزواج عليها . فتح باب تعدد الزوجات و باب التطليق حتى يسمح للرجل باستبدال أدوات شهيته الجنسية الى ما لانهاية. و نشير هنا إلى أن نفس المبدأ أعيد تركيزه في مدونة الأحوال الشخصية بالمغرب بعد الاستقلال سنة 1957. ففيما يخص التطليق ، حدد دور القاضي في تسجيل و ترسيم القرار السيادي للرجل المطلق. و يجد الطلاق تبريره غريزيا، إذ المهم هو الحفاظ على الشهوة المتأججة عند الرجل( Sexe Idéologie et Islam)      
هذه القوانين التي توضع باسم الإسلام كيف تكونت و كيف نشأت في البيئة العربية. فكما سنلاحظ، لن تعود فاطمة المرنيسي إلى الحضارات القديمة بل ستجد في البيئة العربية السابقة على الإسلام ملامح نظام أمي لا يسيطر فيه البطريك كما نراه اليوم. تؤكد أن محمد نبي الإسلام عاش في حياته فترة انتقالية من عصر الجاهلية الوثني إلى عصر الإسلام البطريكي. فلقد عاش حياته الزوجية الأولى مع زوجة واحدة وهي خديجة. محمد لم يطلب خديجة للزواج بل هي التي تزوجته و هذا ما حدث له أيضا مع ليلى بنت الخاتم. هذا يعني أن فكرة أن تقترح المرأة نفسها على الرجل لم تكن بالشيء الخارق، بل كانت عادة سارية. هذه العادة و التي كانت تسمى الهبة منعت مباشرة بعد موت النبي محمد.
نشير هنا على أن محمد بن عبد الله رسول الإسلام كان آخر مسلم حظي بالهبة و كان آخر مسلم ( و ربما عربي) طلق من طرف امرأة. فلقد حدث أن دخل محمد عند اسماء بنت النعمان و أغلق الباب ثم هم بلمسها، فصاحت: "اعوذ بالله" فقام النبي لتوه و غطى رأسه و انصرف و أمر بإرجاعها إلى قبيلتها. و تكرر نفس الحدث مع مليكة بنت النعمان و فاطمة بنت الضحاك. كان نطق المرأة بالطلاق لا يحتاج الى طقوس كما هو اليوم، كان يكفي أن تنطق به ثلاث مرات لتكون في حل من زوجها. لقد اصبح هذا الأمر بيد الرجل اليوم و انقلبت الأمور إلى ضغط و سلطة يمارسها الذكر.
ان التقليد الذي استقر بعد الرسول محمد لم يأخد بالجوانب التي ذكرنا، بل وضع الطلاق في يد الرجل فحسب و استغل حب الرسول للنساء ليركزه كقاعدة مطلقة. نحن نعرف أن النبي كان كلما سمع بامرأة جميلة إلا و وسعى لامتلاكها تقول المرنيسي. ووصل به الأمر إلى الزواج من أمينة بنت جحش و اضطر معها إلى إصدار آية تحرم التبني. حب النساء هذا و ضعف النبي أمام الجنس الآخر هو الذي جعل جمهور المسلمين الذكور يتعاطفون معه  و يأخدونه كمثال .
الرجل ضعيف وقد يسعى الى امتلاك كل امرأة يعشقها او يسمع بجمالها حتى. وواجب المرأة ان تحصن الرجل ضد الزنا. الزواج جنة ضد الزنا والواجب يفرض على المرأة ان تجيب زوجها إذا دعاها ومن لم تفعل فهي معرضة لقطع النفقة. التشريع المغربي ( 1957 ) يؤكد هذا لصالح المواطنين الذكور. في المقابل تكون المرأة محمية من الزوج إذا كان عنا، يعني ليس باستطاعته حتى الزنا. النتيجة ان كل القوانين موضوعة لحماية الذكور " ضبط الجنس العنيف بالطبيعة عند المرأة ومنعها من الاستقلال الداتي فيما يتعلق بالممارسة الجنسية ، هذا هو الاساس في المؤسسات العائلية الاسلامية (Sexe Idéologie et Islam). لم يبق من الاستقلال الذاتي الذي مارسته المرأة في الجاهلية الا أثر طفيف يحمل اسم التمليك أي ان الرجل يمنح المرأة امكانية طلب الطلاق إذا رغبت في ذلك، او الطلاق الخلعي. لقد أسقط القانون المغربي ( 1957 ) الصفة القانونية عن التمليك.
" إن البنية العائلية الجديدة التي مثلت ثورة في عادات الجزيزة العربية قبل الاسلام، كان هدفها هو وضع سيطرة ذكورية والحفاظ على مصالح الباترياك"(Sexe Idéologie et Islam )/. واليوم يعرف العالم تحديثا متسارعا يعتبر فيه العربي أن بامكانه امتلاك السيارة المصنوعة في السويد لكنه يرفض استيراد الرأسمال الرمزي الذي يخص العائلة الدي نتج عن نفس الثقافة التي أنتجت السيارة. طبعا !  

هذا المجتمع البطريكي الحديث مثال أمثل للمجتمع المتخلق لأنه ذلك المجتمع الذي يستوعب كل مظاهر الحداثه دون ان يتجاوز نفسه تحدث الثوارات والانقلابات وتتغيرالمظاهر لكن البنية البطريكية تبقى سائدة. اننا أمام مجتمع بطريكي ملقح بالحداثة" في نظر هشام شرابي .
كان من الشائع والدائع في الابيات السياسية ،والتي تنحو منحى المادية الجدلية على الخصوص، أنه يكفي ان نغير النظام الاقتصادي لكي تتهاوى كل البنى الفوقية للأنظمة التقليدية. فيكفي مثلا ان ننتقل او ننقل المجتمع الى نمط اقتصادي رأسمالي لكي يتهاوى الفكر الاقطاعي وتنمو الليبرالية وحرية الفرد وحقوق الانسان، لكن الوضع العربي كما نقرأه منذ بدايات القرن العشرين يكذب ذلك : "إن عملية التحديث تصبح نوعا من الحداثة المعكوسة" يقول هشام شرابي .
هنا يحاول هذا المفكر ان يعود الى اسباب ديمومة النظام البطريكي تحت عباءة الحداثة الاقتصادية ليخلص انه لا يمكن فهمها إلا بالرجوع الى عنصرين اساسين: التقليدية والتبعية. ويؤكدهنا أن نشوء رأسمالية تابعة في مصر والهلال الحضيب في القرن التاسع عشر لم يساعد على الانتقال نحو نظام حديث على أنقاض النظام البطريكي. ذلك ان هذه الرأسمالية لم تخلق برجوازية وانما خلقت طبقات هيمنت عليها البرجوازية الصغرى التي هي طبقة هجينة لا هي بالبرجوازية ولا هي بالبرولتاريا .
من سمات هذا المجتمع التابع حتى وان غلبت عليه تمظهرات الحداثة، وسوء أكان محافظا او تقدميا، هو سيطرة الاب سيطرة مطلقة مهما تنوعت اساليب السيطرة. يترجم هذا على مستوى الدول بالمخابرات والبوليس. داخل هذا النفق يمكن للمواطن ان يبتعد عن السياسة لكنه لما يلجأ الى البنيات الأخرى فإنه يجدها مهيكلة بطريكيا ( القرابة، العشيرة، الفئة ) .
يوجد النظام البطريكي بين تيارين أساسين هما الأصولية الدينية والعلمانية.   وبما أن للأصولية امتداد جماهيري تفتقده العلمانية فإن النظام البطريكي الحديث لايدخل في صراع معها لأنه يتكسب ويعيش عاى نفس مبادئها. قد يخيل للبعض أن نجاح الأصولية قد يسقط النظام البطريكي الحديث  ويستطيع العالم العربي أن يعود بعد دلك للحداثة، هدا وهم.
قد ننظر الى العالم العربي من الخارج ونظن أنه حديث لكن يجب أن لا ننسى أن الأمر يتعلق "بكيان عام سيكلوجيا واجتماعيا. اننا نجده على شكل بنية اجتماعية واخرى سيكلوجية ( نفسية ) انه مجموعة من القيم ونمط من السلوك ترتبط بنظام اقتصادي معين وثقافة معينة " ( البنية البطريكية ). ولا يمكننا فهمه إلا بمواجهته مع مفهوم الحداثة. فبينما تنبنى الحداثة على الفكر والعقل والحقيقة العلمية واللغة التحليلية والنظام الديموقراطي الاشتراكي، ينبني النظام البطريكي الحديث على المعرفة الأسطورية والحقيقة الدينية التعليمية واللغة البيانية ونظام السلطنة والبروقراطية وعلى العائلة والقبيلة والطائفة. ان الحداثة تمثل بنية كلية وسياقا شاملا ووعيا نوعيا، لذا لا يمكننا الحديث عن حضارة تنقل. لا، الحداثة تحول بنيوي عميق لا تجدي فيه مقايسه وتناقل بين كيانات حضارية متساوية نسبيا. لا ينقل النظام الاقتصادي دون تبني الرأسمال الرمزي .
لكن كيف أمكن استيعاب بعض مظاهر الحداثة دون المساس بعمق النظام البطريكي؟ او بالأحرى كيف اصبح المجتمع البطريكي الجديد محدثا؟ يجب أن نفهم أنه في العلاقة مع الامبريالية تتم عملية ادماج بعض البنى دون غيرها من المجتمع التقليدي. يخلف هذا صراعا بين القديم والجديد في ظل التبعية والخضوع ويؤدي هذا الصراع الى بروز النظام البطريكي الحديث كتعويض عن البطريكية التقليدية. ليس العائق إذن، وكما يعتقد، هو البنى الداخلية الغير متجانسة فحسب، وانما الشكل الحاسم والعنيف الذي برزت به أوروبا كمركز للثروة والقوة في العالم. هذا الوضع هو الدي خلق الانسان المحدث المنفصم الشخصية ثقافيا الذي يعيش بين الماضي والحاضر والذي قد يكون موضوعيا أقوى حليف للنظام البطريكي الحديث واحد ألد أعداء الحداثة (هشام شرابي، البنية البطريكية ) .
ان البورترية الاجمالي للانسان المحدث هو وعي مندمج يتسم بنزعتين أساسيتين هما المحاكاة والامتثال. يتلقف الأفكار من العزب دون وساطة او وعي نقدي ولا يتمتع بأية استقلالية وهذا هو المظهر الحقيقي والطابع المشوه للحداثة البطريكية .
لكن رغم تلقفه لكل ما بنتج في الغرب ورغم مسارعته لاستهلاكه فإنه يظل حبيس البنية الفلسفية التي تأسست في العصر الاسلامي الأول يفكر العالم من خلالها ويتحرك سياسيا بمنطقها. " ان عظمة الانجار السياسي الذي حققه محمد بن عبد الله ليست نجاحه في حل الروابط القبلية والتغلب على الشقاق القلبلي بل بالأحرى قدرته على اذماج الروابط الاجتماعية والنفسية القائمة آنذاك وتطويعها داخل المجتمع الاسلامي الجديد. وهكذا اصبحت الأمة الاسلامية قبيلة كبرى"( البنية البطريكية ). هذه القبيلة تعمل داخل الوعي العربي مرة بالدين ومرة باللغة ومرة أخرى بالعرق وأخيرا بالعائلة .
هنا تظهر مشكلة المجتمع البطريكي الحديث الذي يستمد قوته من بنيتين: البنية الاجتماعية وبنية الوعي . لا يجد الفرد الحماية إلا داخل العشيرة إذا أن الدولة لا تحميه بل تقمعه. ولنأخد مثال أمة أخرى ونقارنه بالأمة العربية: تربى العائلة اليابانية التقليدية ابنها على التضامن والطاعة كذلك تفعل العائلة العربية، لكن عند ما ينقل الياباني هذه القيم الى المجتمع، يحتفظ بها العربي داخل العائلة. ان الشعوب تنتقل من الاخلاص للعائلة الى الاخلاص للشعب وتستبدل طاعة الوالدين بالواجب اللازم للجماعة وحب الوطن. كل هده أشياء تمجدها القومية العربية على نطاق واسع لكنها لم تنشئ المؤسسات التي تتيح تطبيقها. من المستحيل إذن بروز وعي قومي ( الشعور بهوية قومية متميزة ) في هذه الانظمة.
لكن ألا يمكن للتاريخ أن يتغلب على هذه العقبات ؟ ألا يمكن للتكوين والتعليم على نطاق واسع أن يأتيا على نهاية هذا النظام ؟ يبدو حسب هشام شرابي أن ذلك من الصعب نظرا لأن بنية النظام البطريكي الحديث محكمة وتعيد انتاج نفسها بدون توقف. فالكبير الذكر، يوجد على هرم السلطة(الأب، الأخ الأكبر، المتنفد في القبياة، الرئيس...)، كل هذا ينسحب على تربية الأطفال. إن طفلا نشأ في هذه البيئة ولم يتجاوزها تجعله يقبل التأثر بنظام متسلط. لذا وجب الانتباه لفهم هذه الظاهرة الى نمطين أساسين في علم نفس التربية، وهما التبعية والاستقلال الذاتي. ينتقل الأطفال خلال نموهم النفسي و البيولوجي من مرحلة الى أخرى من التبعية واعتبار القوانين مقدسة الى الاستقلال الذاتي واعتبار القوانيين توافقية. قد نلاحظ هذا في علاقة الطفل مع العائلة كما مع أترابه خلال اللعب. لكن العائلة البطريكية تجهض الانتقال نحو الاستقلال الذاتي، "...انها تواصل غرس القيم والمواقف الذهنية التي تتصف بها التبعية " ( البنية البطريكية ). إنها تنتج افردا يعززون نظام الولاء ويضمنون استمرار النظام البطريكي .
ولا داعي الى الاشارة هنا الى أن نظام الرعاية والولاء الشخصي يقوم على الوساطة . إن الام هي الوسيط الأول بين الابن والأب كما يمكن أن يكون العم والخال أو غيرذلك وهذا يجعل الفرد يشعر رغم عجزه بمكانة معينة داخل نظام السلطة. ينسحب هذا على العلاقات الاجتماعية . ليس القانون هو المهم ، بل الحضوة والوصول الى أصحاب الجاه. قد يمكن أن يجرد الأب ابنه من حقوقه ان هو خالف أوامره، كذلك الشأن بالنسبة للسلطة. يصبح الحق خاصية لا ترتبط بالكيان الشخصي للفرد وانما هبة من فوق. إن أكره ما يكره النظام البطريكي الحديث هو الحديث عن الحقوق، انه يجب استبداله بالحضوة او المكرمة .
يبدوا اننا امام الباب المسدود. لا، أبدا. فكما رأينا عند جميع المفكرات والمفكرين، فإن الامر يتعلق بالأسرة، بالمجتمع وبالأمة. داخل هذه الانساق هناك عناصر وكتل تتحمل النظام البطريكي أكثر من غيرها. هناك المرأة والطفل والشعب بشكل عام، لكن هناك ايضا البنى الانتاجية التابعة. لذا يلتقي كل المفكرين حول التبعية  والاستقلال الداتي. لا يمكننا إذن أن نفكر في تخليص المرأة والطفل والشعب من التبعية دون التفكير وبنفس الحدة في التخلص من التبعية الاقتصادية والثقافة والسياسية للمجتمعات العربية. لكن إذا كان من المفروض علينا أن نجعل من مسألة المرأة مسألة "رجالية" أيضا، كما يقول هشام شرايبي فانه من المفروض أن نخلص هؤلاء "الرجال" من عقليتهم البطريكية كما تؤكد على ذلك كل من نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي. فهؤلاء الرجال "... يمكن للواحد منهم أن يكون منخرطا في النضال ضد الظلم وأن يدخل السجن ويدافع عن الانسانية، لكنه مع ذلك يقهر زوجته في البيت ويفرض عليها أن تعمل من أجله ومن أجل الأسرة ."(نوال السعداوي)

المراجع :
- قاسم                              - تحرير المرأة
- الطاهر حداد                    - امرأة تنا في ضوء الشريعة والمجتمع
                                      - الاعمال الكاملة
-نوال السعداوي                - المرأة والجنس
                                    - الانثى هي الاصل
                                    -ا لمرأة الدين والاخلاق
-فاطمة المرنيسي Sexe Idéologie et Islam                 
                                     الحب في حضارتنا الاسلامية
-هشام الشرايبي                  البنية البطريكية بحث في المجتمع العربي المعاصر                   
                                             النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع العربي

كتب هذا البحث خصيصا للموسوعة الفكرية التي يصدرها المركز القومي للثقافة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق