السوسيولوجيا وميلاد المجتمع الإستهلاكي1/2
·
الزاهيد مصطفى
'' لم يعد هناك مجال للشك أو
الإختلاف في أن الإقتصاد أصبح اليوم يحتل صدارة الإهتمام ، وأن الإمكانات الواسعة
والخارقة التي وفرها العلم الحديث والتقدم التكنولوجي الباهر هي بالأساس آليات
لخدمة أهداف الإستثمار والربح ، ومن ثم فإن سلطة الإستهلاك تستمد نفوذها من هيمنة
الصورة باختراقها لكل الحدود والحواجز ونفاذها إلى كل العقليات والذهنيات
والثقافات . السماء تمطر صورا، ومشهد الهوائيات على أسطح البنايات في كل أرجاء
العالم يعكس استسلام إنسان القرن الحادي والعشرين لهذا الإمطار واستزادته الطوعية
منه ''1 و''قد شهد القرن التاسع عشر ظهور الأنظمة التقنية الأساسية للإتصال وتكريس
مبدأ التبادل الحر، إذ يعتبر القرن الذي احتضن ميلاد رؤى وأفكار تأسيسية ترى في
الإتصال عامل إندماج وتواصل للمجتمعات الإنسانية بعد أن تمركز في البداية في مسألة
الشبكات الفزيائية (المادية) وغذا أساسا لإيديولوجية التقدم وقد تم استيحاء
التصورات الأولى "لعلم الإتصال" من الفكر الذي يرى في المجتمع كيانا
عضويا (système organique) ، أو مجموعة أعضاء تؤدي وظائف متكاملة محددة بدقة "2 و''كما يرى عالم
الإجتماع الأمريكي والمؤرخ - بروس مازليش- الذي كان يدير برنامج الإنسانيات
والعلوم الإجتماعية في مؤسسة (MIT) : أنه لم يعد بمقدورنا
أن نفكر في الإنسان بمعزل عن الآلة "3 . إن التطور التقني كان له تأثير عميق
وجذري على بنية المجتمع وعلى الحياة الإجتماعية للأفراد كذلك . لقد كان لتطور
الإقتصاد ، وكذلك تغير أسلوب الإنتاج تأثيره على المجتمع ، حيث ساهم التطور الذي
عرفته الآلة في التأثير على العلاقات الإجتماعية ، حيث أن حلول الآلة والتقنية في
الفضاء الإجتماعي كان له تأثير على الوظيفة الإجتماعية للعلاقات بين الأفراد وعلى
منظومة القيم والإستهلاك ... وهو ما يؤكده ألفن تفلر(AlvinToffler)" لقد مرت
البشرية حتى الآن بموجتين عظيمتين من التحول محت
كل منها ثقافات وحضارات الأولى ، وحلت وأحلت أساليب حياتية جديدة محلها لم
يكن يتخيلها أحد من قبل وبالنسبة للموجة الأولى فهي الثورة الزراعية وقد استغرق
إنجازها ألاف من السنين . أما الموجة الثانية :-نشوء الثورة الصناعية-: فقد إستغرق
أنجازها ثلاثمائة عام ومن المرجح أن تكتمل الموجة
الثالثة خلال عدة عقود فقط حيث يسير التاريخ بتسارع كبير في عصرنا هذا. هذه الموجة
ستؤثر في كل فرد منا، فالأسرة مجزأة والإقتصاد محطم والأنظمة السياسية مشلولة ،
والقيم تضرب بعرض الحائط وهي تتحدى علاقات القوى السابقة وامتيازات النخب المعرضة
لخطر تقدم الأرضية التي ستتصارع عليها قوى
المستقبل"4.
غير أن هذه النزعة المفرطة في الإيمان بالعقلانية التقنية ، والروح التقنية
كمكون جوهري لها ، كان في اتجاه سالب لثوابت الحداثة : حيث أن التقنية بدأت تشغل
الحيز وتحطم حدود الفضاءات الإجتماعية، لقد تحولت إلى شيطان العصر، وإلهه في نفس
الوقت . لقد ساهمت التقنية في الرفع من الإنتاجية ومضاعفتها في المصنع ومن ظهور
وسائل إنتاج جديدة وأدوات إتصال جديدة مما غير بشكل جذري طبيعة الحياة الإجتماعية
للأفراد وكذلك نمط العلاقات فيما بينهم ، لقد ضرب كل من مفهوم الزمان والمكان ،
لقد أضحى الزمان إنشتاينيا كما ذكر مافزيولي (Michel MAFFESiOLi) في كتابه تأمل العالم
، الصورة والأسلوب في الحياة الإجتماعية ، وفي مقال للأستاذ أحمد كازا "يرى
مارتن كودون بأن التحولات العالمية جعلت من السرعة نسقا في ارتباطها "باقتصاد
السوق " وأصبحت العولمة أعلى أشكال تطور الرأسمالية ، وتمركز هذا التحول على
اقتصاد التبادل في علاقة بشبكة التواصل المؤسسة على سرعة الضوء ، مما أدى إلى
نهاية الخارق والمثير، وأصبحت كل الأمكنة وسطا للتبادل وقابلة للسكن والإقامة وغير
معزولة عن الكونية . كما أن سلطة التقنية لم تبقى آلية ومرئية كما كانت مع فاعلية
العقل الحسابي الحداثي ، بل هي اليوم عبارة عن حركة غير قابلة للحصر والعد
والضبط"5،على نفس الخط كان الضبط الإجتماعي يتزايد بحدة أكبر من خلال
تأثيث الفضاء الإجتماعي بالمؤسساتية التي
شكلت العالم الحديث ، وفي نفس الوقت تزايد حدة البيروقراطية داخل المؤسسات
الإجتماعية وتنامي اقتصاد السوق ، وانتشار النظام الرأسمالي وسيطرته على الحياة
الإجتماعية من خلال ظهور الشركات العابرة
للقارات ، وظهور الإحتكاراتوالكارتيلاتوالتراوستات التي تهيمن على النظام العالمي
وتوجهه من خلال إيديولوجية القوة التي تعتمد اقتصاد الشبكات بتعبير مانويل كاستلزManuelCastells"ويرى كاستلز أن
مجتمع المعلومات المعاصر يتميز بظهور "الشبكات " ، واقتصاد الشبكات
اقتصاد يعتمد على التواصل والترابط الناجمين عن ثورة الإتصالات العالمية ، بيد أن
الإقتصاد العالمي الجديد - كما كان يفكر كارل ماركس - لم يعد يقوم على الطبقة العاملة
أو على إنتاج السلع المادية ، بل إنه يقوم على التقدم في شبكات الإتصال والحوسبة
التي أصبحت هي الأساس لتنظيم عملية الإنتاج''6. إنه عصر وسائل الإعلام القوة
الجديدة أو القوة اللينة التي أظهرت قدرتها على التحكم والتوجيه خلال الحرب
العالمية الثانية فيما سمي بالدعاية '' وقد أظهرت الحرب أن وسائل الإتصال قد أصبحت
وسائل ضرورية في إدارة الرأي العام من طرف الحكومات سواء تعلق الأمر بالرأي
الموجود في الدول الحليفة أو الدول المناوئة . واعتبر لاسويلH.Laswel أن الدعاية تمثل الوسيلة الوحيدة الأكثر اقتصادية من العنف
والفساد والتقنيات الأخرى من هذا النوع ، وقد أصبح يطلق على هذا الأسلوب في
الإتصال في بعض أدبيات السياسية الأمريكية اليوم بالقوة الناعمة''7.
'' إن معرفة العامل الحاسم في هذه التحولات السريعة التي أشار إليها ألفن
توفلر والتي لا يمكن فهمها إلا في سياقها التاريخي الذي يقرن بين الحداثة وما بعد
الحداثة ،بل إن مفهوم الحداثة المتكون تدريجيا من خلال هذه الصيرورة التاريخية
الطويلة يحمل في نفسه تعقد التقلبات التي أفرزتها وهي تعني في آن واحد واقعا تقنيا
اقتصاديا وبناءا قانونيا أساسيا وحالة نفسية ثقافية.
على المستوى التقني الإقتصادي: تحدد الحداثة نوع
العلاقة مع الطبيعة الذي يحث عليه البحث المنظم للإنتاجية ويرى ريمون آرونR.Arronأن تمت تحديدا واحدا اليوم - وهو الشائع
والبديهي - يتناول الحداثة بوصفها معرفة عملية محققة تساعد على تنظيم الإنتاج
عقلانيا، وذلك في سبيل إنتاجية تبلغ حدها الأقصى ، إن تحويل البيئة الطبيعية هو في
الأساس تغيير شروط الحياة المتعاقبة من جيل إلى آخر، وفي العصر الحديث لم تعد
الطبيعة رحم كل نظام إجتماعي وأخلاقي ولم تعد إنعكاسا ، ولا مقياسا للإنسجام ...
على المستوى القانوني السياسي: تكمن الحداثة في الفصل
القائم بين دائرة الحياة العامة ودائرة الحياة الخاصة، وهذا الفصل بين الدائرة
العامة (حيث استعمال العقل يجب أن يكون حرا دائما) والدائرة الخاصة (التي يمكن
لإستعماله أن يكون محدودا جدا) في قلب الصيرورة التي يخرج عبرها الإنسان من قصوره
المسؤول هو عنه ، هذا الإنفصال يحدده كانط في الإجابة عن السؤال الآتي ماهو عصر
الأنوار؟ وتكتمل هذه الصيرورة المزدوجة فيما يمكن تسميته بالحداثة التقنية أي من
خلال طريقة تساعد الإنسان على مراجعة نفسه كفرد وعلى العمل على اكتساب هويته''8 .
غير أن التطور الذي عرفته تكنولوجيا وسائل الإتصال وتوظيفها في الإعلام الذي كان
له دور حاسم في إحداث نقلة نوعية وتغيير في طبيعة المجتمع وتثويره لمنظومة القيم
التي أسستها الحداثة وفي هذا الصدد ''يلاحظ
جان بودريار أيضا أن العصر الحديث إذا ما قيس مع التوافق السحري والديني
والرمزي للمجتمع التقليدي ، يتميز بظهور الفرد بوعيه المستقل ونفسيته ونزعاته
الشخصية ومصلحته الخاصة ، وحتى بلا وعيه أكثر فأكثر شبكة وسائل الإعلام والمنظمات
والمؤسسات وتجريده وخسارة هويته في العمل وفي وقت الفراغ ، وفي عدم القدرة على
التوصيل الذي يسعى إلى التعويض عنه نظام شخصنة
كامل من خلال الموضوعات والإشارات''9 .
إن تطور العقلانية الأداتية نتيجة
المغالاة في الوضعية منذ ثورة لافوازييه (Antoine-Laurent de Lavoisier) إلى حركة الإصلاح
الديني وحركة إحياء العلوم وثورة كوبيرنيك
(NicolasCopernic) وصولا
إلى أينشتاين (Albert Einstein) ولوباتشوفسكي (Ivanovitch
Lobatchevski) ، وتأثر العلوم الإنسانية بإنجازات هاته الحقول الوضعية في
دراستها للظواهر الطبيعية لم يِؤسس ولم ينتج إلا عقلا أداتيا ، عقلا صارما وممنهجا
، حسابيا ، تقنيا وخبيرا.
إن الإيمان بقدرة وسائل الإعلام -
كقوة جديدة - على التوجيه والتحكم والتأثير على الجمهور ممثلة في تقنيات وسائل
الإعلام : كالتلفاز، الصحافة، الفضائيات، الإشهارات على الواجهات... كان يتم في
إطار مرحلة تاريخية . تسمى ما بعد الحداثة مع كل من ليوطار، أدرنو، هوركمايمر،
هابرماس، ملفندوفلو
(Melvin DeFleur)''9 ، حيث تم تحديد ما بعد الحداثة في مجموعة من الخصائص، والقيم،
والتي كان لوسائل الإعلام الدور الحاسم في تسريع وثيرة تحولها :
''
-النسبية الإجتماعية(Social Relativity): لا توجد المعاني أو الأخلاقيات أو الحقيقة بشكل موضوعي في
العالم، ولكن يكونها المجتمع، ولذلك لا يمتلك أحد الحقيقة المطلقة أو جوهر معرفة
الأشياء ، كما أن الإتفاق بين البشر أفضل من معرفة الحقيقة.
-الحتمية الثقافية (Cultural Determinisme): تشكل القوى الإجتماعية الأفراد بالكامل ، وتحدد اللغة بشكل خاص ما الذي
تفكر فيه، إذ أننا محبوسون في"سجن اللغة" وعلى ذلك فإن الهوية
ليست فردية، ولكنها جماعية وإجتماعية، ولهذا لابد لإنسان ما بعد الحداثة من أن
يتكيف مع الآخر المختلف عنه ثقافيا ، من دون أن يكون ذلك مدعاة لتسيد نموذج ثقافي
وحيد ،على أن يحتفظ كلاهما في الوقت نفسه باختلافه في إطار التفاهم المشترك، وكذلك
تستبعد ثقافة ما بعد الحداثة أن يكون هناك ما يطلق عليه ثقافة المركز لإيمانها بإيجابية الإختلاف بين البشر.
-رفض النزعة الإنسانية(The Rejection of Humanism):لقد تم إساءة فهم قيم التقدم، والسيطرة على الطبيعة، وأولوية الإنسان، إلى
حد فقدها، فليست هناك أممية إنسانية طالما تشكل كل ثقافة حققيقتها الخاصة، القيم
الإنسانية الحداثية هي: أدوات للقهر والإستعباد والجريمة ضد الطبيعة والآخر
الثقافي . لذلك لابد أن تقوي كل مجموعة نفسها لتؤكد على قيمها وتأخذ مكانها مع المجموعات الأخرى من
دون مفاضلة .
-إنكار الميتافيزيقا والأديان(Denial of Metaphysics
and Rligions): ترفض مرحلة ما بعد الحداثة وجود معايير علوية مفارقة للواقع الإنساني (Transadental) والتي تدعي لنفسها القدرة على الحكم والإختيار بين
القيم المختلفة ، كما أنه ليست هناك مطلقات ، وحتى لو وجدت فإننا لا نستطيع الوصول
إليها طالما نحن عبيد لثقافتنا ومسجونون في لغتنا .
-رفض الأنساق المغلقة:(The Rejection of Meta-narrtives) ترفض ثقافة ما بعد الحداثة الحكايات الكبرى أو الخطابات الكلية التي تقوم
بعمليات توحيد مستمرة لما هو متعدد ، كالخطابات الدينية والإشتراكية والتنوير،
ويتطلع تيار ما بعد الحداثة إلى الخطابات المفتوحة ، المرحة والطموحة ، المؤسسة
على تجارب شخصية لتكوين خطاب مؤلف من شظايا أو تكوين أيديولوجية التصدع التي تعمد
إلى فض وحل ما هو كلي، وقد انعكس ذلك على
رؤية الذات فيراها مفكرو ما بعد الحداثة متعددة ، مفككة ، و متشظيةتسائل نفسها
باستمرار.
-رفض العقلانية:(The Rjection of Reason)ترى حركة ما بعد الحداثة أن العقلانية والنزوع إلى موضعة الحقيقة(أي جعلها
موضوعية)هي مجرد أقنعة للقوى الإجتماعية، والقبول الإجتماعي يتحقق في إخفاء الذات
في جماعة أكبر، وفي سياق هذا الرفض للعقلانية تحث حركة ما بعد الحداثة على إطلاق
العنان للمشاعر الأمينة والغرائز الطبيعية والتأسيسية للذاتية وتطوير انفتاح ثوري
على الوجود برفض تطبيق أي نظام على حياة الفرد.
-رفض كلية المعرفة:(Anti-universality of
Knowledge)ترفض حركة ما بعد الحداثة مقولات الحداثة
التي تؤكد على أن العلم هو السبيل الوحيد للمعرفة ، أو أن العلم محايد ، لأنها- من
وجهة نظرهم- تغفل المحتوى السياقي للمعرفة
، فالنظرية الإجتماعية تستمد قوتها الجبرية ومنطقها بسبب أنها تعد جزءا من
التقاليد الإجتماعية والثقافية، وعلى ذلك فإن الحقائق والمعارف الجمالية والأخلاقية
تستمد قوتها من ثقافة محددة، وعلى هذا فإن الفن والدين هما رافدان هامان للمعرفة
من دون الإدعاء بأفضلية دين على آخر أو احتكار دين ما الحقيقة المطلقة .
-تفسير كل شيئ من خلال القوة(Power Reductionisme):كل المؤسسات الإنسانية
والقيم الأخلاقية والإبداع ماهي إلا تعبيرات وأقنعة للإرادة الأولوية للقوة،
ولايوجد يقين حقيقي إلا يقين الجسد ، لأنه المكون الأولي والأساسي للقوة.
-نقد غير ثوري للنظم القائمة:(Non-revolutionary Critique of the ExistingOrder) : يجب أن يختفي المجتمع الحداثي بعقلانيته ونظامه ونظرته الأحادية للحقيقة،
ولابد من أن توضع التكنولوجيا الحديثة ، خاصة في مجال الإتصال والإعلام ، في خدمة
تعددية الحقيقة بدلا من استخدامها في قهر الإنسان، ويتم ذلك بتفكيك خطاب أي سلطة
دينية أو سياسية أو اجتماعية ولكن من دون عنف .
-إستحالة التحديث:(Impossibility of Determination) :تركز حركة ما بعد الحداثة على اتساع الوعي البشري نتيجة لتكنولوجيا الإتصال
بما لا يمكن معه تحديد المعرفة بشيء معين في نموذج صوري للحقيقة ، ومن هنا أصبح
الوعي عبارة عن معلومات ، والتاريخ عبارة عن أحداث ، وعلى كل جماعة أن تضفي المعنى
الذي تريده على المعلومات والأحداث ''10 .
كما يضاف إلى هاته المصفوفة من
القيم التي ميزت ما بعد الحداثة ، أزمة علم الإجتماع، وكذا صعود الثقافة المضادة
وانتشار النظام الرأسمالي على المستوى العالمي، ونهاية البدائل ، لدى البعض في
التاريخ*، وإعلان المجتمع ما بعد حداثي، المجتمع ما بعد الصناعي ، المجتمع
الإستهلاكي...لكن السؤال الذي يؤرقني هو كيف تم لهذا النظام الرأسمالي
الإستمراروالإنتشار على المستوى العالمي رغم تغير طبيعة وبنية المجتمع ؟ كيف تم
الإنتقال إلى مجتمع إستهلاكي ولا شيء غير الإستهلاك والمتعة؟
ساهمت أيديولوجية وسائل الإعلام في قتل المعنى وبالتاليقتل الواقع،وهو ما ساهم في تجدير وتعميق فكرة أساسية لدى الإنسانهي خلق
الحاجة وإثارةالرغبةمن أجل أن تصبح غريزة الصراع ضد الحقيقة هي الأهم وبالتالي ضد
الواقعوضد المعنى وبالتالي تسهيل عملية الهيمنة.لن يصبح الفكر ذا قيمة في ذاته بل
من أجلذاته يجب أن يصبح شيئا من الأشياء التي تباع وتشترى ويصبح الشاعر والمثقف
والعالمدون قيمة في المجتمع لأن أيديولوجية قتل الواقع تقوم على فكرة خلق النجوم
الذينيستطيعون توحيد الأشخاص حول الاستهلاك والأغاني والجنسوخدمة الإحتفالية ولايستمد
الفكر قيمته من تطابقه مع الحقيقة, بل مع تطابقه مع الراهن المؤدلجوالمزيف والمضلل
بتكنولوجيا الإفتراضي. لقد شكلت اللحظة الديكارتيةفي سيرورة إنتاج المعنىالتأسيس
لمبحث الإنسان كذات واعية وحاملة لفعل واحد هو التفكير الصادر عن مطابقةالمعنى
بالوعي(الكوجيتو) غيرأن هذا المعنى المعطى للواقع ولإنتاج المعرفة وللمعرفة
نفسها كان تصوره مند أرسطو إلى حدودظهور
العلوم الإنسانية تنتجه''حسب التصور الكلاسيكي لنظرية المعرفة''ذات فاعلة
منبثقة،صانعة عالمها تفكر ولا يفكر لها خارجة عن الحجر والوصاية بالتعبير الكانطي،
لكن هاتهالنرجسية ستوجه لها ثلات مطارق نقدية سيتحول فيها المعنى من مدى مطابقة
الفكرة معواقعها إلى مدى مفارقتها له وبالتالي فإن ما كان هامشيا مثل الجنون
والجنس والشدودوالرغبة واللاوعي أصبح له دور في إنتاج المعنى وبالتالي إنتاج
تصورات وتمثلات حول الواقع.فالثورات العلمية الثلات كان لها
تداعيات ووقع على الفكر الفلسفي والإجتماعي مما ساهم في تغيير النظرة للموضوع
والدات والعالم ،ونشير هنا إلى:
·
ثورة كوبرنيكالتي أكدت عجز العقل الملاحظوإنخادعه من طرف الحواسفالمعنى
لا يمكن إدراكه إلا بواسطة العودة للذات من أجل تحطيم أوهام القبيلة والمجتمع
وإتباع قواعد التفكير العلمي الممنهج بل لابد من تأسيس منهج من أجل إدراك المعنى
/الحقيقة.
·
ثورةداروين في النشوء والارتقاء
فالمعنى/الحقيقي ليس المطابق للواقعبل
سيرورة المحايتة لهذاالواقع والبقاء للمعنى الأصلح الذي يستطيع تأطير وقائع
المجتمعوالإنسجام مع إشكالاته وقيمه ويتكيف معها.
·
ثورة التحليل النفسي واكتشاف اللاوعي الذي يتميز بنشاط
لاشعور:أدى
ظهور التحليل النفسي إلى إعادة النظر في مفاهيم كثيرة: النفس
و العقل ، الإرادة والوعي ،المعنى و العقلانيةوغيرها من المفاهيم الأساسية في نظرية المعرفة .كما وجه ضربة قاضية للنزعة الإنسانيةالساذجة
وللكوجيطوالذي اعتبر أساس الفكر الحديث .كان الكوجيطو شك فيالأشياء و في موضوعات
العالم الخارجي ويقينا فيالذات .لكن التحليل النفسي حول الكوجيطو إلى ديبتو(dubito) ذاتي
أي إلىشك في الذات نفسها، وبين أن فيها شرخاعميقا يفصل بين واقعها الفعلي المحتوم و صورتها عننفسهاوهو ما دعي بجدل الرغبة و
الحقيقة.(بول لوران أسون).
ساهم التطور التقني بوتيرته المتسارعة في هذه التحولات
وخاصة تطور تقنيات الإتصال وأصبح العصر عصر صورة،ومند الحرب العالمية الثانية
أبانت وسائل الإعلام على قدرة هائلة في إدارة الرأي العام وتوجيهه لخدمة القائم
على الإتصال ولم يعد بالإمكان تصور إستقلالية سياسية لبلد معين أو تنمية حقيقة له
ما لم يكن مستقلا إعلاميا .
لقد أصبحت وسائل الإعلام كأنظمة إجتماعية قادرة على
التوجيه والتحكم والضبط للأفراد والجماعات وهو ما حفز رجال الشركات والإقتصاديين
في إدارة علاماتهم التجارية ومنتوجاتهم عن طريق الإعلانات فنمت ثقافة جديدة لخدمة
ذلك .ثقافة النجوم والمشاهير المرتبطة أسمائهم إرتباطا وتيقا بالعلامة التي يشهرون
لصالحها ولم يعد الفرد قادرا على الإختيار بل تم دمج الكل في نسق للإستهلاك ولخدمة
البيع والشراء وذلك بتوظيف المعرفة لخدمة المصلحة والنشاط الإقتصادي.
ماذا تبقى للسوسيولوجيا وما مدى راهنيتها؟
لا أهدف من خلال هذا السؤال إلى البحث عن شرعية
للسوسيولوجية في مقاربة الإجتماعي ورصده وهو أمر إستنفد فيه من الكتابة ما ملأ
المكتبات من خلال السجال بين علماء النفس وعلماء الإجتماعي في لحظة الـتأسيس بل
أهدف من خلاله لإعطاء تصوري من خلال إنشعاليبالسوسيولوجيا:
فالسوسيولوجيا ليست مستشهرا للخطاب السياسي وليست
تبريرية له بل هي تحليلية لسياقه ولأليات إشتغاله ولخلفياته ومن يحاول يحاول أن
يعطي للسوسيولوجيا هذا التصور الضيق فلن يسقط إلا في النزعة الوضعية والتصورات
البيروقراطية التي إنتهت إلى سوسيولوجية للأرقام وهو ما أسميه ''بالسوسيولوجية
الإحصائية'' التي تقف عند جلباب الأرقام ولا تعطي أهمية للأفعال والدلالات
والرموز، على إعتبار أن الفعل الإجتماعي ليس موضوعا قابلا للقياس بل هو بناء
ودلالة قابلة للفهم والتحليل والتأويل.
لايمكن لهذه الأخيرة كذلك أن تكون سوسيولوجيا مكتبية أو
مهنية فذاك تصور بيروقراطي لم ينتج لنا إلا''سوسيولوجيةإحصائية''بل لابد
لهذه الأخيرة كما عبر عنه الأستاذ عبد الله القرطبي أن تكون سوسيولوجية تحليلية
تأويلية تواصلية فهمية لا تقصي من تناولها للعالم الإجتماعي لا الفلسفة ولا علم
النفس لا الجغرافيا بآعتبار أن راهنيتها تكمن في أنها السياق العام لرصد لإجتماعي
.وإقتناعا منا بهذا التصور الذي يمكن أن يعطى للسوسيولوجيا سنعمل في دراستنا
القادمة على تحليل قيمة من قيم تطور العقلانية التقنية والدي ساهمت فيه وسائل
الإعلام وهو للخطاب الإشهاري و آليات إشتغاله في وسائل الإعلام السمعية
البصرية ، وستكون دراستنا :تأويلية،لرموز
والدلالات ...فالخطاب الإشهاري في الإعلام السمعي البصري يقوم على مسألة أساسية هي
تقديس الإحتفاليةوالإستهلاك فآليات الإقناع التي يقدم بها: من إستمالات عاطفية
ووجدانية وإيحاءات جنسية ،لا يمكن أن ينظر إليها في معزل عن العلامة المروج لها
لأن شراء المنتوج لا يمكن دون القيم المصاحبة له وهو ما يضمن لهذا المنتوج وهذه
العلامة الإستمرارية وبالتالي تعزيز ثقافة الإستهلاك.
وفي تحليلهما لمجتمعات الإستهلاك والإشهار والصورة يطرح
ماكس هوركهايمروتيدورأدورنو سؤالا راهنيا وعميقا نعيد طرحه :
لماذا سقطت الإنسانية في بربرية جديدة عوض أن ترتقي لوضع
إنساني أصيل ؟
الهوامش:
1.
المنجيالزيدي،ثقافة الشباب في مجتمع
الإعلام،عالمالفكر،المجلد 35 السنة 2006 ص 208
2.
أرمان وميشال ماتلار،تاريخ نظريات
الإتصال،ترجمة نصر الدين لعياضي،والصادقرابح،بيروت،المنظمة العربية للترجمة،سنة
2005 ص 23
3.
آسا
بريغر-بيتربروك،التاريخالإجتماعيللوسائط،ترجمة مصطفى محمد قاسم،الكويت،المجلس
الوطني للثقافة والفنونوالآداب،سنة 2005 العدد 315 ص 406
4.
محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد
العالي،الحداثة،سلسلة دفاتر فلسفية ،العدد 6 ص 301
5.
أحمد كازا ،الفاعلية والإبداع:أو تضارب العقل
والخيال،مقال غير منشور
6.
أنتوني
غدنز،علمالإجتماع،ترجمةفايز،بيروث،المنظمة العربية للترجمة،سنة 2005،ص 730
7.
ذ.عبد الله القرطبي،مدخللسوسيولوجية الإعلام
والتواصل،المفاهيم والقضايا الأساسية،محاضرات 2008-2009
8.
محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد
العالي،الحداثة،دفاترفلسفية،العدد 6 ص 26-27
9.
نفس المرجع ص 27
*
أنظر محاضرات الأستاذ عبد الله القرطبي،أمام
طلبة علم الإجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية مراكش حول سوسيولوجية الإعلام والتواصل ،بالضبط
محاضرته حول ملفندوفلور وسائل الإعلام كأنظمة إجتماعية
10.
محمد حسام الدين إسماعيل،الصورةوالجسد،دراسات
نقدية في الإعلام المعاصر،بيروث،مركزدراسات الوحدة العربية،2008 ص 13-14
*
أشير هنا إلى فكرة بعض المحللين
الإستراتيجيينبأمريكاخاصة مع فوكوياما وكتابه نهاية التاريخ حيت يتحدت عن نهاية
البدائل وسيطرة النظام الرأسمالي بزعامة الولاياة المتحدة الأمريكية
11.
محمد جسوس،طروحات حول الثقافة واللغة
والتعليم،منشورات الأحداث المغربية،سنة 2003 ص 6- 7
12.
رمضان بسطويسمحمد،علم الجمال لدى مدرسة
فرانكفورت،أدورنونموذجا،القاهرة،مطبوعات نصوص 90 سنة 1993 ص123
13.
ميشيل مافيزولي،تأملالعالم،الصورة والأسلوب
في الحياة الإجتماعية،ترجمة فريد الزاهي،الرباط،منشورات المعهد الجامعي،سلسلة
ترجمات،2005 ص 6-7
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق