موليم العروسي
نشرت هذه الدراسة للأستاذ موليم العروسي، في الموسوعة
العربية التي أشرف عليها الأستاذ عبد الإله بلقزيز والصادرة عن مركز دراسات
الوحدة العربية تحت عنوان" الثقافة العربية في القرن العشرين: حصيلة
أولية" رفقة دراستين واحدة عن التفكيكية عند الخطيبي وواحدة حول الفن
سننشرهما بالتتابع بشكل خاص على موقع منتدى الفكر الحر
يحدد عبد الكبير الخطيبي نفسه
مقومات التفكيكية ومصادرها في كتابه المغرب المتعدد، الصادر بالفرنسية سنة
1982 بشكل متزامن بباريس والرباط. ويعني المفكر بالمغرب، المغرب العربي
الكبير، لأنه استعمل مدلول Maghreb.
ففي هامش بالصفحة47 يتوقف ليحدد ماالمقصود لديه بهذا المفهوم. وكانت الإشكالية
التي استدعت اللجوء إلى هذا المفهوم هي تحرير السوسيولوجيا من الفكر الاستعماري.
وبما أن مفهوم التحرير كما تستعمله الفرنسية التي كتب بها الكتاب هو Dé-colonisation فإن الخطيبي حاول
أن يجد أساسا فلسفيا في الجهاز المفاهيمي المابعد-حداثي في الفلسفة الفرنسية التي
كان ينتمي إليها روحيا.
وإذا
كان مفهوم التفكيكية قد استعمل في بداية الأمر عند الفلاسفة، فإن الخطيبي، وهو
عالم اجتماع أولا ثم أنثروبولوجي لاحقا، قد استعمله، أو حوره لضرورات منهجية.
فالمفهوم في حد ذاته، وإن لم يكن ظهر إلا عند مجموعة من الفلاسفة الفرنسيين كجاك
ديريدا، وبشكل عملي منهجي قبل ذلك عند البعض الآخر كميشيل فوكو، فإن إعماله كمنهج
عرف قبل ذلك عند الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. إن الإشارة التي يحدد فيه
الخطيبي مصادر استلهامه لهذا المفهوم تقول:"إنني أقتبس هذا المفهوم من جاك
ديريدا بالنظر إلى 1) أن فكره هو أيضا حوار مع "مجاوزة الميتافزيقا"؛
كفكرنقدي تأكيدي، يبني، خطوة خطوة، فكر اختلاف مابين الفلسفة والعلم والكتابة؛ 2) التفكيكية،
بما هي تدمير للميتافزيقا الغربية، وكما يمارسها ديريدا، بطريقته الخاصة جدا، نشأت
ورافقت تصفية الاستعمار كحدث تاريخي. سوف نؤكد هنا على بعض ملامح الالتقاء التي
ليست بالمرة مسارا اعتباطيا. لقاء بين تصفية الاستعمار والتفكيكية." المغرب
المتعدد، ص 47و48، من النسخة الفرنسية.
من هنا
يظهر أن الحاجة إلى مفهوم يزعزع بنيان فكر، يتعلق الأمر هنا بالفكرالسوسيولوجي
الاستعماري، متكامل مقتنع بنفسه ومتمركز حول ذاته وإثنيته، كانت ضرورية. ولم يجد
الخطيبي أحسن من التفكيكية لسببين:
1.
عقده العزم على مساءلة الفكر الغربي، في جدوره الفلسفية
العرقية، الذي نما وتكون بموازاة مع
الامبريالية وفي أحضانها خصوصا في شقه المتعلق بالعلوم الإنسانية.
2.
مساءلة الفكر الذي كونته المجتمعات العربية عن نفسها في حقب مختلفة من التاريخ.
هذا
المنحى والذي سماه الخطيبي نقدا مزدوجا هو الذي تطلب اللجوء إلى استراتيجية نقدية
سماها النقد الفكري العربي فيما بعد بالتفكيكية، مترجما بذلك المفهوم الفرنسي Dé-construction. ليس من الخطأ أن يترجم المفهوم هكذا
ولكن ليس من السهل أن تؤدي هذه الكلمة كل المعنى.
يرجع
كما قلنا أصل التفكيكية إلى الفينومينوليجيا ممثلة في مارتن هايدغر وطريقته في
تعرية أصول المفاهيم وإعادتها إلى أصولها إما الميتافيزيقية أو اللاهوتية أو حتى
الاعتباطية المتعجرفة. وللوصول إلى هذا الهدف كان هايدغر يعمد إلى مساءلة الأصول
التاريخية، الدينية،اللاهوتية، الميتافيزيقية، الفيلولوجية... للمفاهيم مرجعا
إياها إلى زمن انبجاسها ورابطا علاقتها مع الحقول التي سمحت بإنتاجها. بهذه
الطريقة كان هايدغر يطمح إلى أن يضع نفسه خارج كل الأنساق الفكرية والفلسفية وخارج
السياج الميتافيزيقي الغربي الذي كان الكل يعتبر أنه أقفل بصفة نهائية مع فلسفة
هيغل المطلقة.
هذا
التوجه نحو مساءلة الفكر الغربي برمته وإعادة النظر في منطلقاته، هو الذي سوف
ينهجه فلاسفة كثر ومنهم ميشيل فوكو الذي انكب على نقد الأنساق المؤسساتية
الأوروبية: مؤسسات العزل؛ السجن ومعازل المجانين، مؤسسات الخطاب، مؤسسات
الجنس...هذه المساءلة لم تكن في نظر ديريدا كافية، لأن مساءلة الفكر عن جدوره
وشروط تكونه كانت تنقصها مساءلة أخرى تتعلق بعلاقة هذا الفكر مع الأنساق الفكرية
الغير غربية. أكيد أن لمساءلة الذات أهمية قصوى لكن مساءلة الذات في مواجهة الآخر
تكتسي نفس الأهمية. من هنا بروز مفهوم التمركز حول الذات العرقية ومركزة الخطاب حول
الذات،وهو ما ترجمناه عن: ethnocentrisme
وlogocentrisme . فالغرب الذي أنتج
خطابا، انطلاقا من نفسه، ،وبوأه مرتبة العالمية والكونية ينسى أن هذا الخطاب محلي
مركزي يكاد يكون قبليا، إثنيا. من هنا وجب تفكيكه والتحقق من مزالقه، رغم
عقلانيته، والحفاظ على اليقظة الدائمة لأنه يتسلل كالأفعى لكل الخطابات المستكينة.
من هنا
اتجه معول التهديم من أجل إعادة البناء إلى ميادين متعددة. يجدر بنا هنا أن نؤكد
على أن المعنى القريب من الصواب لمفهوم التفكيكية هو:"الهدم من أجل إعادة
البناء"، وإذا صح فهمه هكذا فإننا لن نكون بعيدين جدا عن كل الاجتهادات
الإبستمولوجية التي أسس لها غاستون
باشلار، الذي هو بالمناسبة من أكبر أساتذة هذا الجيل. إذ أنه كان أستاذا بالسوربون
عندما كان كل هؤلاء طلبة. ولقد كان ديريدا في كتابه De la
grammatologie، الصادر عن دار مينوي بباريس سنة 1967، قد حدد هذه
الميادين: مفهوم الكتابة، تاريخ الميتافزيقا ومفهوم العلم. واعتبر أن
الأرضية التي تأسست عليها هذه الحقول أرضية إثنية، المقصود هنا إثنية أوروبا،
ولهذا وجب تفكيك ذاك الخطاب الذي أنتجته حول نفسها.
هذا هو
التوجه النقدي الذي سوف يتخده الخطيبي والذي سوف يلتقي، كما قال، بشكل لامجال
للإعتباط فيه بمشروع جاك ديريدا. سوف يتوجه إلى ميادين الصراع مع الفكر الاستعماري
الذي بقي، رغم رحيل المستعمر، يسيطر على أذهان مثقفي الأمة العربية أو على الأقل
بعضهم.؛ معتبرا أن عش هذا الفكر هو العلوم الإنسانية، علم الاجتماع الاستعماري
والإستشراق. كما سوف يشمل نقده ميادين ظلت في نظره مكبوتة من طرف الفكر العربي
نفسه ألا وهي ازدواجية اللغة، الجنس والفن.
في سنة
1977، أصدر الخطيبي مع مجموعة من المفكرين عددا خاصا من المجلة التي كان يديرها
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، الأزمنة الحديثة، عن المغرب العربي. كان نص
الخطيبي في الأصل محاضرات ألقاها باللغة العربية أمام طلبة علم الاجتماع بجامعة
الرباط في نفس السنة. إنطلق السؤال الإشكالي لهذا البحث من قولة تحريضية لفرانتز
فانون، أحد أقطاب الثورة الجزائرية، تقول: "هيا يارفاق، لقد انتهى اللعب
الأوروبي إلى غير رجعة، يجب الآن البحث عن شيئ آخر". في هذا المفصل بالذات
يتدخل الخطيبي ليتساءل عما هو هذا الشيء الجديد وإن كان بالإمكان التخلص من اللعب
الأوروبي بهذه السهولة. ألا تسكن أوروبا حميمية وجودنا؟ أمن الممكن أن نجد هذا
الجديد انطلاقا من تراثنا؟
يجب لكي
نصل إلى هذا أن ننخرط في نقد جذري للتراث الغربي وبنفس الحدة لتراثنا الوطني. من
هنا النقد المزدوج: نقد الآخر ونقد الذات. إعادة النظر في الميتافيزيقا الغربية
التي مثلت الأرضية الأساسية للفكر الاستعماري ونقد اللاهوت العربي الإسلامي الذي
طمس الاختلافات وأسكت اللغات المتعددة وكبت الأجساد والرغبات وهيأ بذلك الطريق
للاستعمار. نقد مزدوج يتوجه لهذين الحليفين الاستراتيجيين، وإن بدون شعور منهما،
حتى يعري الآليات التي تحرك كليهما. يجب أن نعري الاختلافات ونهتم بالهوامش(
الأكراد، الأمازيغ، الأقباط...، وخصوصا هامش
الهوامش، المرأة).
هذا
الشيء الآخر الذي ينادي به فرانتز فانون يبلوره الخطيبي بطريقة أخرى. إنه فكر مختلف
واستراتيجية مغايرة. إن على المغرب، ومعه العالم العربي وحتى العالم الثالث، أن
لاينقاد للفكرة التي تقول أن نهاية العالم توجد بين يدي ذلك النظام التقني والعلمي
الذي خطط العالم بإخضاعه لإرادته واقتناعه بنفسه. فالخلاص يوجد على هامش هذا
الفكر، على هامش الميتافزيقا الغربية المؤسسة له وعلى هامش اللاهوت الإسلامي.
الفكر المختلف، الذي يدعو الخطيبي إلى تبنيه، يوجد في هذا الهامش، ويجب أن يبقى
فيه متيقظا. الفكر المختلف يعتبر هذا الهامش حظا لانظير له.
من هذا
الهامش إذن سوف يراقب الخطيبي المغرب العربي ويتوقف عند تحولاته. لايحلل عبد
الكبير الخطيبي هنا المجتمع من وجهة نظر سوسيولوجية بل يتعرض للأفكار السياسية
والأيديولوجية التي أنتجت بصدد العالمين المغاربي والعربي. سوف يحلل هذه البنيات
إذن، واضعا نصب عينيه بعض الأسماء الفكرية العربية، مصرحا ببعضها أحيانا ومضمرا
بعضها أحيانا أخرى. سوف يرصد ثلاث
مستويات: التقليدانية، السلفية والعقلانية. وهنا عندما يتعرض للتقليدانية
والسلفية بالنقد نفهم، وخصوصا من إحالاته،
أنه يتوجه لكل الفكر التقليداني والفكر السلفي العربيين؛ لكن عندما يتحدث عن
العقلانية فإنه يقصر نقده على مؤلف عبدالله العروي، الأيديولوجيا العربية
المعاصرة، في نسختها الفرنسية الصادرة بباريس سنة 1967.
-
التقليدانية، ويعني بها الميتافيزيقا مختزلة في اللاهوت؛
ذلك العلم المستحيل المختص في الله وأصل العالم.
-
السلفية؛ ويعني بها الميتافيزيقا التي تحولت إلى عقيدة، أخلاق
لتصرف سياسي وبيداغوجيا اجتماعية تطمح إلى مصالحة العلم مع الدين والتقنية مع
اللاهوت.
-
العقلانية( سياسية، ثقافوية، تاريخانية، اجتماعوية...)
؛ويعني بها الميتافزيقا التي تحولت إلى تقنية. تنظيم للعالم بطريقة وفق إرادة
للقوة، غير مسبوقة، تستمد قوتها من التطور العلمي.
هذه
الرؤى الثلاث تجعل من المغربي والعربي على السواء، تقليديا بنسيانه للتقاليد، عقدي
بنسيانه لفكر الوجود وداعية للتقنية بالتبعية.( تجدر الإشارة هنا إلى أن عبدالله
العروي قام بنفس التحديد: الشيخ، السياسي، داعية التقنية، انظر الأيديولوجية
العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، 1999).
فالتقليدانية
لايمكنها أن تتجلى وتستمر إلا في عالم مهزوم معرض للوعي الشقي والتمزق الدائم. إن
التقليداني يقتات من حقد وكراهية الحياة. إنه ينهك نفسه باستمرار لينقلب إلى
الوحشية والجنون. أما السلفية فإنها يدعي أنها مجاوزة للتقليدانية. إنها تريد أن
تصلح انحطاط وفساد العالم. لكن السلفية والتقليدانية على السواء لن تستطيعان ذلك.
إنهما تائهتان في العالم المعاصر. ليس باستطاعتهما الثورة على أسسهما التيوقراطية
ولا القفز للسكن داخل فكر الحوار مع الخارج أي الشر المطلق الذي ينخرهما من
الداخل. إن السلفية تدعي قدرتها على إخضاع التقنية الغربية إلى اللاهوت الإسلامي
دون أضرار أخلاقية على المستوى الإنساني. إفراغ التقنية من القيم المؤسسة لها.
في
مقابل كل هذا نجد العقلانية في نسختها التاريخانية التي تلح على الاستمرارية
التاريخية. تتبنى هذه التاريخانية نظرية العصور الطويلة حتى يتأتى لها إدماج
الحالة الاستعمارية و"تخلفنا الثقافي". إنها تنتفض ضد التقليدانية والسلفية اللتان
تلحان على سجن التاريخ العربي في ماضي نوستالجي، هذا شيئ محمود، ولكنها بتنيها
الاستمرار والاتصال في فهم التاريخ، تنسى أشياء أساسية: الللإتصال، التقطعات،
الانحرافات، الفوضى، التشتت، اللاتوازنات... وهذه مجتمعة يمكن أن تؤسس جزءا من
تاريخنا. لسنا ملزمين، نحن العرب، باتباع نفس الحقب التاريخية التي مر منها الغرب.
يجب الانطلاق مما هو موجود الآن وهنا، موجود كسؤال، كقضية، كتحد للفكر.
هذه
التفكيكية لم تتوقف عند الأيديولوجيات الكبرى. سوف يتحول عبد الكبير الخطيبي لاحقا
ومعه نقده المزدوج إلى ميادين أخرى. سوف يتجه إلى ميادين الفكر والإنتاج الروحي:
الفن، الثقافة الشعبية والكتابة. سوف يساءل رؤية العرب للجسد والجنس داخل المتن
القرآني. سوف يحلل الثراث الشفهي منه والمكتوب: الخط العربي، الوشم على الأجساد،
ألف ليلة وليلة، ازدواجية اللغة...إلى غير ذلك من الميادين المنسية والمهمشة من
طرف اللاهوت الإسلامي والسلطة الذكورية الممركزة.
هذه
الميادين هي نفسها التي اهتم بها فلاسفة التفكيكية الذين اعتبروا أن الحداثة
بتركيزها على كل ما هو واعي وعقلي نسيت أن الإنسان ليس عقلا فقط وأن له من
الممارسات التي قد تخرج على هذا النطاق، لذا وجب الاهتمام بها والبحث عنها في
الجسد، في الفن...
المراجع:
هذه المراجع الأساسية التي يتبدى فيها فكر عبد الكبير الخطيبي.
-Maghreb pluriel, édition Smer/
Denoël, Rabat/ Paris, 1983
-Du Maghreb, in Les Temps Modernes, Paris, 1977
-La Blessure du nom propre, Denoël, Paris 1974
-L’Art calligraphique arabe, Chêne, Paris 1976
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق