الاثنين، 8 ديسمبر 2014

عودة المثقف




عبدالواحد رشيدي

عودة المثقف


في ظرف أسبوع واحد تجرأ مثقفان مغربيان بارزان علنا، على خطوط حمراء ظل المثقفون المغاربة لا يقتربون عادة منها إلى وقت قريب. ففي المنتدى العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في مراكش، والذي أثار جدلا كبيرا، تقدم الباحث السوسيولوجي عبد الصمد الديالمي بتوصية يطالب من خلالها بجعل مادة التربية الإسلامية مادة اختيارية في التعليم العمومي، أو بإلغائها بالمرة؛ لما تحتوي عليه من مضامين تناقض مفهوم المواطنة1. وهذا المفهوم الأخير (المواطنة) هو ما كان -بعدها بالضبط- موضوع مداخلة المثقف المغربي المعروف عبدالله العروي بالمكتبة الوطنية بالرباط، في إطار أنشطة الجمعية المغربية للمعرفة التاريخية؛ حيث أشار إلى أن المشاهد يرى في المشاركين في “حفل الولاء” مجرد موال، معاونين، تخلوا طواعية عن صفة المواطنة، مما يعني أن البيعة تعارض مضمون الدولة الوطنية الحديثة، فانبرى لمفهوم “المواطنة” محاولا إزالة كل الشبهات المرتبطة به، نظريا وتاريخيا2.
هل هي مجرد مصادفة، أم أن الواقع الاجتماعي/السياسي هو الذي لم يعد يحتمل هذا النوع من الازدواجية؟ لماذا يعود المثقف المغربي اليوم إلى الساحة لطرح هذا النوع من النقاش، مع أن شروطه كانت قائمة من زمان؟
ماهي الوضعية العامة التي تحيط بهذا النقاش داخليا وخارجيا؟
خلال عقد من الزمان تبين أن ماسُمي “بالعهد الجديد” لا جدّة فيه، إن هو إلا استمرار لنفس النمط من الحكم والتحكم. خيبة غذّاها الإحباط التام للشباب الذين خرجوا يطالبون بالتغيير. فكان دستور 2011 الذي خيّب الآمال بتناقضاته الداخلية وبالمسطرة التي اتُبعت لإقراره. وعاد الكل إلى المربع الأول، حيث المنع والقمع والاعتقالات، كما كان الأمر واردا دوما.
وعلى الصعيد العربي، يعلم الجميع ما آل إليه الحراك الشعبي الذي فجّر التناقضات الذاتية في كل مجتمع مرّ به. حيث توارت إلى الوراء شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في معناها الإنساني الكوني، لتحل محلها في الصدارة المفاهيم الجهوية والقبلية والطائفية ومفاهيم الهوية الدينية والوطنية... لينتهي الأمر إلى ظهور داعش واستهوائها لآلاف الشباب بخطابها الارتدادي، الذي لم يكتف بدفن شعارات الحراك فقط بل طلّق معها كل المفاهيم الإنسانية الكونية.
حدث ويحدث كل هذا، ودور المثقفين فيه شبه منعدم. لقد كان واضحا في المغرب أثناء الحراك الشعبي أن هناك ثغرة كبيرة بين الشعارات المرفوعة، وبين المفاهيم التي تحيل عليها والآفاق التي تتوخاها. ثغرة، ما كان يمكن أن يملأها إلا المثقفون. لكنهم لم يتخذوا أي موقف آنذاك. والآن، وبعد أن عادت الدولة إلى سابق عهدها، وأمام انسداد أفقها السياسي، ظهر جليا أن التناقض يزداد يوما عن يوم بين المقتضيات الدستورية ذات الطابع الكوني وبين الممارسة السياسية للدولة المبنية على مفاهيم “البيعة، الولاء والطاعة”. في هذا الإطار، كيف يمكن للمواطن أن يمارس السياسة؟ سؤال لم يكن من صميم عرض العروي، لأنه كان مهتما أصلا بكيف يمكن أن يكون المرء مواطنا؟ وبأي معنى؟ يقول: “الدولة مطالبة بخلق مواطن، بحيث يكون حرّا مستقلا.. كيف؟ بالتربية وبالإصلاحات الاجتماعية... إلخ.” لكن هل الدولة في المغرب تريد خلق هذا المواطن الحرّ المستقلّ الفعال والمساهم في “رأسمال الدولة”؟ إنها لاتريد في المقابل “مواطنا سلبيا”، لأنها بحاجة إلى الأتباع، فتعمد إلى ماكان يسمى في الأدبيات السياسية القديمة “بصناعة الرجال” الذين ينفذ بهم الخليفة او السلطان سياسته، في إطار البيعة والولاء والطاعة، البعيدة كل البعد، طبعا، عن مفاهيم الدولة الوطنية الحديثة.
وأوضح دليل على هذا التناقض الذي تتخبط فيه الدولة، هو مضمون التعليم العمومي الذي يسعى، “بضربة واحدة -يقول عبدالصمد الديالمي في مداخلته- إلى خلق سُنّي مالكي مواطن لدولة ديموقراطية عصرية؟ في نظام يسعى في الوقت ذاته، إلى خلق رعية (مطيعة لله ولممثليه) ومواطن (متحكم في قدره) باسم دستور ذي مرجعية مزدوجة، الإسلام وحقوق الإنسان؟” فما العمل اتجاه هذا الوضع الملتبس؟
إذا كان الديالمي كسوسيولوجي قد حسم موقفه بكل جرأة، مقترحا توصيات بجعل المدرسة العمومية بمنأى عن الانحياز الديني، وبإلغاء إجبارية مادة “التربية الإسلامية” وبجعل التعليم الديني تعليما خصوصيا، فإننا لم نجد في مداخلة العروي ما يمكن أن يشكل توصية ما في اتجاه تجاوز هذا التناقض القائم في النظام السياسي المغربي. ظل العروي وفيا لهدف سلسلة “المفاهيم” ، فكان هدفه التأصيل لمفهوم “المواطنة”، لا اقتراح حلول لتحقيقها. وإن كان رمى بحجر-كما قيل- في بركة “البيعة” الآسنة.
يعترف الجميع بأن الدولة الوطنية الحديثة تعرف أزمة في العالم كله، بسبب وجود منتظم دولي يمسّ سيادتها مباشرة بإلزامها بقيم عالمية ليست بالضرورة وليدة تجربتها التاريخية الخاصة. وهذا حال المغرب الآن، وكما كان دائما متأرجحا بين التقليد والحداثة. وضعية ظل عاجزا عن الحسم فيها، كما فعلت دول أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية، بسبب هيمنة قوى المحافظة والتقليد. وانعدام هذا الحسم هو ما جعل الأفق السياسي للمغرب مسدودا يعيد إنتاج نفسه، دون أن تبدو في الأفق بوادر إمكانية اي إصلاح.
في هذا الإطار، كيف يعزو المثقف المغربي عدم اهتمامه بالشأن العام إلى انشغالاته الأكاديمية والتي هي ضرورية كيفما كان الحال، ووجوده بنفسه في خطر بسبب اكتساح الفكر التقليدي وممثليه السياسيين للساحة؟ من هنا الأهمية البالغة لمداخلتي الديالمي والعروي، ومن قبلهما مجموعة من المثقفين الذين حاولوا ويحاولون معالجة الطابوهات الدينية والسياسية والاجتماعية.
إن التراجعات التي عرفها المغرب على مستوى حرية التعبير وحرية الممارسة السياسية، وتفاقم اقتصاد الريع والزبونية على أعلى مستوى، وتدهور ممارسة المجتمع السياسي، وتعاظم المطالب الجهوية واللغوية، والانتشار السريع للفكر الداعشي، وانسداد آفاق الإصلاح، تضع كلها المغرب على شفا الانفجار كما حدث لمجتمعات أخرى. فكيف يتذرع المثقف المغربي، في هذا الوضع، بعدم اتخاذه لمواقف صريحة، حاسمة وجريئة، اتجاه الدولة، والعقيدة والمجتمع؟
إن عودة المثقف المغربي إلى الساحة العمومية، ومخاطبة الناس، واتخاذ مواقف شجاعة دون مداهنة ولا مهادنة، هي الضمانة لجعل التغيير ممكنا، ولدحر الاستبداد والفكر التقليدي الملازم له، ولفتح آفاق المجتمع العصري الحديث، حتى يجد المغرب مكانا له تحت الشمس. أما إذا ظل المثقفون عندنا واقفين على أبواب الدولة، يستجدون عطاياها كما فعل أسلافهم في القرون الوسطى، فإنهم لن يصلوا أبدا إلى مستوى “المواطنين المساهمين”، وسيظلون مجرد “موال، مجاورين ومعاونين”. بحسب تعبير العروي بنفسه.
سلا 08/ 12/ 2014
1نص مداخلة الديالمي حول “المدرسة العمومية” مراكش 29/ 12/ 2014 http://dialmy.over-blog.com/2014/12/54836955-e024.html

2نص مداخلة العروي حول “المواطنة” الرباط 03 /12/ 2014 http://alazmina.com/2014/12//

الخميس، 13 مارس 2014

الدين ،المجتمع والدولة... في سياق التنوير

المفكر شوقي الزين: حاوره الأستاذ الزاهيد مصطفى  والأستاذ أحمد كازي
(عضوا منتدى الفكر الحر)


توطئة:
كتب المفكر المغربي محمد الناجي على صفحته في الموقع الاجتماعي التواصلي "فايسبوك" نصاً تحت عنوان: "من أجل مشروع وطني"، يدعو فيه إلى ضرورة توحيد الجهود بين كافة القوى السياسية من أجل مواجهة المخاطر المحدقة بالمنطقة، وهو النقاش الذي سيعززه المفكر الجزائري والباحث المتخصص في مجال التأويليات وتحليل الخطاب محمد شوقي الزين، والذي علق بالنص الآتي على الدور الذي تلعبه تنظيمات الإسلاميين في المنطقة مع تشخيص مكامن الضعف في الاستراتيجية والتصور السياسي والاجتماعي لهذه التنظيمات، وهو ما دفعنا إلى إجراء الحوار الآتي معه من أجل إلقاء الضوء على تصور المثقف لما يجري اليوم نظراً لأهمية خطاب المثقف على خطاب السياسي الذي يكون غالباً ما يواري الحقيقة، في حين مهمة المثقف تبقى دائماً وأبداً تحرير الخطاب من سلطة السياسي وتعريته، ليبدو واضحاً متجلياً، مشيراً بكلّ دقة إلى المسار الذي ينحو إليه التاريخ في ظلّ ما يجري.
شوقي الزين: لا شك أنّ الإسلاميين يشكّلون معادلة مهمة في الواقع العربي الإسلامي اليوم؛ لكنهم يتصرفون كالفرق المسيحية بالأمس: قمت بمقارنة تاريخية بين اليسوعيين والإخوان المسلمين، واندهشتُ للتماثل بينهم. بالأمس (بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر) ضرب اليسوعيون عرض الحائط كلّ دعائم الدولة الحديثة الناشئة آنذاك، وتصرّفوا كعُصبة محايدة ومستقلة، لأنه كان لديهم تنظيم منظّم بشكل هندسي، كانوا أذكياء، علماء؛ لكنّ سخط الجميع عليهم جاء من هذا الكبرياء في التعالي على الدولة، واحتقار الطوائف الأخرى، والتصرّف بشكل أناني. في منطقهم: الحزب أولى من الدولة، التنظيم اليسوعي أرقى من التنظيم الاجتماعي للدولة، إلخ.... ولم يفعل الإخوان في مصر وغيرها سوى هذا: حزبهم أولى من الدولة؛ تنظيمهم أرقى من القوانين. وكأنهم يؤسّسون لـ"دولة داخل دولة"، وهذا خطير.
ينبغي أن تكون الدولة محايدة، لأنها ملك الجميع، لا يتحكم فيها أيّ حزب أو تنظيم، هي فقط محل لاستئجار وظائف الرئيس والنائب والمستشار، وليست ملكية أحد. ما دُمنا فكرنا بعقلية حزبية (عهد الحزب الواحد منذ استقلال الدول العربية وتحوّلها إلى عصابة وجماعة ضغط في تسخير أدوات الدولة لمصالحها)؛ أخشى أن يكون الإسلاميون يفكرون بالعقلية الحزبية نفسها التي دمّرت جزءاً كبيراً من تحديث هذه الدولة ودمقرطتها. وكلّ الأمور كانت تذهب نحو "تحزيب الدولة" في مصر وتونس؛ أي الرجوع إلى الوراء في تسخير أدوات الدولة وإطاراتها لخدمة الحزب. الحل الوحيد هو أن تبقى الدولة محايدة، مدنية، ملكية الجميع، الهيكل الذي ينبني عليه صرح الأمة، حيث لا حزب (ديني، علماني...) يمكنه أن يستغلها لأغراضه الشخصية. ما لم نتوصّل إلى هذه الصيغة في إبعاد الدولة عن كل الحساسيات والقهريات، فإنّ التشاؤم الذي يطبع نصكم سنصل إليه حتماً، بل ينبغي أن تكون الدولة قوية، محايدة، غير متحزّبة، صارمة لإخضاع كل الحساسيات (دينية، علمانية...) لمنطقها في القوة لدرء التقاتل بين هذه الحساسيات. وهنا كانت الدولة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في غاية الصلابة، حيث ضربت الأحزاب الدينية والعلمانية وقتها بيد من حديد (نابوليون أمام الكاثوليك والمحافظين النوستالجيين للثورة، بسمارك أمام اليسوعيين...). انظر مثلاً ماذا تفعل الحساسيات الدينية المتحزّبة عند السُنّة والشيعة فيما بينها أمام هشاشة الدولة في السياق العربي، تهدّم مساجد بعضها بعضاً في العراق ولبنان بالسيارات المفخخة والهجمات الانتحارية، إذ بقيت الدولة في النطاق العربي هشة وفي أيادي جماعات مصالح أو حساسيات حزبية، فمن المتوقّع أن نصل إلى الاقتتال السني- الشيعي بنفس وتيرة الاقتتال الكاثوليكي- البروتستانتي، وما ذلك ببعيد. الوحدة التي ننادي بتطبيقها في علاقاتنا اليوم ممكنة، لكن شريطة أن تقبل كلّ الحساسيات باللعبة، وأن نتعارك بالأفكار والحجج تحت سلطة الدولة المحايدة، مِلك الجميع، لا مِلكية أحد.
-الأستاذ والمفكر شوقي الزين، ما قلته صحيح تماماً استناداً إلى معطيات الواقع التجريبي وإلى معطيات التاريخ، لكن بخصوص المشروع الذي يطرحه المفكر محمد الناجي، لا ننفي نجاحه في حالة تمّ الاتفاق على مجموعة من القواعد، هل يمكن للتنظيمات الإسلامية أن تؤمن بديمقراطية تضمن حقّ الجميع وتكفل حريات الأفراد والجماعة مهما تمايز الفرد عن الجماعة التي ينتمي إليها؟ هل لديهم وعي تاريخي بأهمية المستقبل والراهن أم ما زالوا يتمثلون تاريخهم كلحظة (طوبى) مثالية توجد في القرن الأول للهجرة؟
شوقي الزين: مشاركة التنظيمات الإسلامية ممكنة في كلّ ديمقراطية تماماً، مثل بعض التنظيمات المسيحية في الغرب (ألمانيا أو أمريكا مثلاً)؛ لكن لم يدرج الإسلاميون معادلة بسيطة في برنامجهم السياسي، وهي: الحرية. تحترم التنظيمات المسيحية في الغرب حرية الجميع ولا تتدخل في حياتهم الشخصية أو قراراتهم الفردية. المعضلة عند التنظيمات الإسلامية أنها "تهذي"، تحيا في هذيان الخلافة وتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية؛ أي كل الأساطير التي يتعجّب لها ضمير حيّ وعاقل. ستفشل هذه التنظيمات الإسلامية إذا اعتقدت أنّ "الإسلام هو الحل". وما هو هذا الإسلام الذي هو الحل؟ إسلامها "هي"؟ إسلام إيران أم تركيا أم ماليزيا؟ إسلام العرب أم إسلام الأمازيغ؟ إسلام النخبة أم إسلام الجماهير؟ هناك سياقات جغرافية وإثنولوجية ينبغي أخذها في الحسبان، لأنّ تعاليم السماء، بمقدار ما تختلط بتربة الأرض، تصبح تعاليم الأرض؛ أي خاضعة للحساسيات والإرادات والعلاقات في القوّة. ما ينقص هذه التنظيمات هو الواقعية والبراغماتية، وأنه لا يمكنها أن تطبّق الشيء نفسه على الجميع، لأنّ العلّة ليست في "القوالب" ولكن في "القوابل" (كما كتبتُ مراراً) ؛ أي في ما يتقبّله الإنسان في جسده وضميره ووعيه، إذا كان يطيقه أو لا، إذا كان راضياً عنه أم لا، إذا كانت له حرية الخيار والقرار أو لا. المشكلة مع هذه التنظيمات هي التطبيق الميكانيكي والروبوطي للأحكام بدون مراعاة السياقات التداولية والقوابل البشرية. وهذا الأمر فهمته التنظيمات المسيحية في الغرب: الحرية هي أقدس من كلّ المقدّسات، لأنه لا يمكن حمل الإنسان على الإيمان بالقوّة ما لم نجعل منه كائناً منافقاً يؤمن عن خشية ورهبة وليس عن قناعة. هل تفهم التنظيمات الإسلامية هذا عندنا، في ديارنا؟
-كلامك دقيق، إذن ماذا يمكن للمثقف والمفكر التنويري أن يقوم به في هذا السياق؟ نعرف اليوم أن القاعدة الجماهيرية الواسعة تراهن على مشروع التنظيمات الإسلامية وتتماهى معه على مستوى التمثلات وعلى مستوى المعيش اليومي، في حين يبدو خطاب التنوير خطاباً عدائياً يستهدف (الهوية والذات)، مما يجعل الفئات الواسعة تتحالف مع السلطوية لتأبيد الوضع السائد ثقافياً وسياسياً. أي استراتيجية للمثقف؟
شوقي الزين: يمكن دائماً أن نقدم الحلول النظرية فيما يمكن (أو يجب) فعله، لكنني أتحاشى إلقاء الدروس والمواعظ. المسألة هي سياقيّة، محليّة، عمليّة. كلّ مفكر أو مثقف، بأدواته وفي نطاقه، على عاتقه تنوير الناس، وليست الأمور بالسهلة. عندما يدعو الكاتب إلى استعمال العقل في حل المشكلات وتبنّي الحوار والمخاطبة (لأن الإنسان حيوان ناطق كما قيل منذ أرسطو؛ أي كائن عاقل ويتميّز باللغة والتبادل اللساني والفكري)؛ نجد أنّ التنظيمات الإسلامية تلجأ إلى الحلول السهلة: مخاطبة الوجدان بدلاً من العقل؛ تهييج العواطف بدلاً من تربية الملكات والقدرات الذهنية والعملية؛ تأليب الضمائر عوض التقصّي والتحرّي. عندما يختار المثقف الحلول المعرفية، تلجأ هذه التنظيمات إلى الحلول السلطوية. لا يمكن بالتالي، في ظلّ هذا الانفصال الراديكالي والحادّ بين العقل والوجدان، توعية الناس وحملهم على التفكير بمحض ذواتهم. يتكئون في الغالب على من يفكّر في مكانهم ويتخذ القرارات بدلاً عنهم: الداعية، المفتي، الفقيه، المرشد، إلخ. تصبح المسألة ممكنة عندما يلجأ الشخص إلى التفكير بمحض إرادته وحريته، ويخرج من القصور العقلي والطفولة الذهنية التي هو مسجون فيها. ونعلم ذلك منذ الأنوار في القرن الثامن عشر الميلادي. لا زلنا نبحث عن تنويرنا بصعوبة، لأن الناس لا يريدون أن يكبروا في عقولهم. يعيشون بالوكالة: أن يفكر الآخر في مكانهم ليريحهم من تعب التفكير. تصبح المسألة ممكنة عندما يبادر الناس إلى أخذ زمام أمورهم بأيديهم، أي بلوغ الرشد العقلي. لأنّ المثقف هو وسيط بين الناس وحُسن التفكير والخيار والقرار، وليس هنا لبسط سلطته أو نجوميته. إذا تصرف بهذه العقلية، فليس بمثقف أصلاً؛ أي لا يمكنه أن ينادي الناس بالتمرّد على الوصاية الدينية والسياسية ليضع بدلاً عنها وصايته هو. التنوير هو مسألة التحرّر من كل السلطات والإكراهات بما في ذلك سلطة المثقف ذاتها.
-المفكر شوقي الزين، نرى أنك تنظر للمثقف بمنظور كانطي في هذه اللحظة إلى الحدود القصوى، لنتحدث في بعض التفاصيل، حين يتعلق الأمر بالمرجع الذي يشكل البنية المؤطرة للسلوك والمعيار لدى التنظيمات الإسلامية نجدها تتكئ على مستوى بنية الخطاب إلى النص القرآني والسُنّة،واعدةً العامّة والحشود بدولة الخلافة على منهاج النبوّة، لكن على مستوى الشعارات تحمل هي أيضاً وتتحدث عن الديمقراطية والحوار والاختلاف، وهي الشعارات التي تسقط بمجرد أن يقترب التاريخاني أو الهرمينوطيقي من النص، كيف تواجه بصفتك مهتماً بمجال التأويليات هذه المعضلة الكبيرة والخطيرة في الوقت نفسه؟
شوقي الزين: المسألة هي مسألة سياقات وقوابل، عندما حاولت الرومانسية استرجاع العصر الذهبي للإغريق صنعت أجمل النصوص والأشعار والفلسفات. لكن الرجوع إلى العصر الذهبي للنبوّة لم يصنع لنا الآن فلسفات أو آداب أو أشعار أو حضارة، ولكن سيارات مفخخة ومجازر وإرهاب. أن نستعيد في الزمن الحاضر مقاصد النص الأصلي، فهي مسألة "حاضر"، هنا والآن. لأن النص لا يتحرك بذاته، بل نحرّكه، هنا والآن؛ الأحكام ليست لها أرجل وأيادٍ لتتحرّك، بل نحرّكها، هنا والآن. إنّ كل قراءة في الماضي، هي الحاضر يقرأ ذاته بوسيط الماضي. مثلاً الخلافة أو تطبيق الشريعة أو إقامة الدولة الإسلامية أعطت أنظمة مبهمة وشاذّة، غريبة عن عصرها، في حالة من الفقر والعنف وترويع الناس كما حصل في أفغانستان مع طالبان أو في الصومال. إذا كانت هذه هي الدولة الإسلامية التي تسترجع العصر الذهبي للنبوّة في الحاضر، فهي بلا شك أعجوبة مبهمة، لأنها في فصام خطير بين قسرية المبادئ التي تحتكم إليها وعفوية الزمن الذي تحيا فيه. أن نرجع إلى عصر النبوة لبناء حضارة، فهذا وقع في الأزمنة الراقية من الثقافة الإسلامية مع وجوه شهيرة من العلماء والأدباء والفلاسفة والصوفية التي اجتهدت وكتبت وألّفت ونظّرت وصنعت وابتكرت وأبدعت؛ لكن أن نرجع إلى عصر النبوة لتخريب الحضارة، فهذا يبرّر، بشكل لاشعوري وغبائي، ما يقال عن ثقافتنا وديننا، إنهما حاملا بذور العنف والكراهية. وهل نرضى بهذا؛ أي أن يكون النعت الذي يخصّ ثقافتنا هو العنف والقهر؟
-تستند التنظيمات الإسلامية في شرعنتها للدولة الإسلامية إلى مثال النبي العربي، محاججة على أنه أقام الدولة والمؤسسات ولو في صيغتها الأولية، وهو ما يعارضه الحداثيون اليوم، بحجة أنّ متطلبات اللحظة التاريخية آنئذ لم تكن تتميز بدرجة من التعقيد التي تعرفها المجتمعات الحديثة، وهو ما يجعل هذه التنظيمات تفتقر للحسّ التاريخي: كيف تنظرون إلى هذا التغييب للوعي التاريخي لدى هذه التنظيمات؟ وكيف يؤثر في نجاح المشروع السياسي لهذه التنظيمات داخل المجتمع الحديث؟
شوقي الزين: نعم، غياب الحس التاريخي هو الذي أفقد التنظيمات الإسلامية مصداقيتها. تفتقر إلى ما يسمّى اليوم، في الدراسات الحديثة، "التداولية". معنى التداولية أنّنا لا نستنسخ أبداً، بأيّة حال من الأحوال، أشكال الماضي. عندما نقوم باستنساخها، فإننا نخترع شيئاً آخر تماماً يرتبط باللحظة الراهنة. عندما نقوم بتقليد أفعال الماضي، فإننا نفعل شيئاً آخر، يرتبط بالسياق والقرينة والزمان والمكان. عندما يقلّد "الحاج موسى" النبيّ محمّد، فإنّ الفعل هو فعل "الحاج موسى" وليس فعل النبي محمد. عندما نستنسخ أشكال الدولة في العصر النبوي، فإننا نؤسس لدولة أخرى لها زمانها ومكانها. هذا ما تفتقر إليه التنظيمات الإسلامية؛ أي البُعد التداولي في مشاريعها المثالية.
-الأستاذ محمد شوقي الزين، أنت من القراء والمهتمين بالتراث الغربي، هذا التراث الممتد من يونان أرسطو إلى ألمانيا هابرماس،عرف محطات دموية كانت المؤسسة الدينية والتنظيمات المسيحية صلب الرحى فيها، فهي الآمر والناهي في الاقتصاد والسياسة والأخلاقيات والثقافة. لكن حدث شيء ما جعل الغرب يعي أنه آن الأوان لكي يتوقف الدم ويتحيّز الدين في مجاله الخاص: كيف حدث تاريخياً هذا التوقف؟ وكيف يمكن اليوم أن نستعيده، رغم ما للتجربة المسيحية من اختلاف ثقافي وسياقي عن التجربة الإسلامية في وقف حمّام الدم وأبواب العنف؟
شوقي الزين: لقد مرّ التاريخ الغربي بمحطات حضارية راقية وأيضاً بمحطات بربرية وهمجية، كانت وراء الهدم العبثي لبنيات اجتماعية وثقافية. وفي كل مرّة كانت هنالك أوقات عصيبة من حروب ونزاعات، اهتدى الغرب إلى تصحيح أخطائه والاشتغال على ذاته وموادّه النظرية. في منعطف الحداثة مثلاً؛ أي بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، حدث شرخ في الوعي الأوروبي بالأفول التدريجي للمرجعية الدينية وتعزيز المرجعية السياسية بنشوء الدولة الحديثة. عندما انهارت المرجعية الدينية بانهيار المؤسسة الدينية (الكنيسة) التي كانت تتكلّم باسمها وتتخذ الشرعية والسيادة بها، فإنّ الطوائف المتناحرة آنذاك خضعت لسلطة الدولة التي استعملت عاملين في تنظيم الحقل الاجتماعي: "العقل" بحكم تواجد الدولة في أزمنة الأنوار والتقدّم؛ ثم "القوّة" باستعمال العنف الشرعي لإخضاع الجميع إلى القانون. بهذا المعنى، تعلمنت الحياة السياسية والاجتماعية، وخضعت المذاهب والطوائف الدينية إلى سلطة الدولة بتأسيس عقد اجتماعي تتعايش فيه الحساسيات، وتأكّد هذا الأمر مع الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية. فاتفق أن ارتاح الوعي الأوروبي من أزمنة النزاعات الدينية بإخضاع الجميع إلى سيادة الدولة، فتمّ فصل الدولة كهيكل اجتماعي وتنظيمي عن المؤسسة الدينية، فأصبح الدين رأسمالاً رمزياً مشتركاً لا يحتكره أيّ مذهب أو طائفة، له نطاقه ومجاله، ويتمتع بالحرية في الشعائر والمواسم يضمنه التنظيم الاجتماعي للدولة. هذا باختصار ما حصل في الوعي الأوروبي، وهذا ما يمكنه أيضاً أن يساعدنا في الخروج من شهوة احتكار الدين والحديث باسمه، لأنّ الصراع الكاثوليكي-البروتستانتي في المسيحية له البنية الذهنية والإدراكية والتأويلية ذاتها كالتي يتمتع بها النزاع السني-الشيعي في الإسلام. عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات في القوة وبالشيء المبهم من الطبيعة البشرية (سلطة، انتقام، قهر، عدوان، هيمنة)، فلا مجال للحديث عن الخصوصية والتجنيس، لأن الإنسان واحد ببنيته الأنطولوجية والنفسية منذ بدء الخليقة. أولئك الذين يريدون دائماً التميّز عن الآخرين بحكم الخصوصية والانتماء والاختلاف التاريخي والثقافي، فهم يستعملون في نظري "الخديعة" أو "الاحتيال" في غير محلّه. طبعاً، لا أنكر الفروقات والتمايزات التي أقرّتها الدراسات الإثنولوجية والأنثروبولوجية بين بني البشر من حيث الأعراق والسمات والإدراكات، لكنني لا أتحدث هنا عن "المعرفة"؛ أي عن الجدول الإثنولوجي في الاختلاف بين الأمم والثقافات، ولكن عن "السلطة" وكيفية الهيمنة والذود عن المصالح والنفوذ. عندما يتعلّق الأمر بالسلطة، فالإنسان هو واحد في كل زمان ومكان؛ وما نفع الغرب بوضع حدّ لسطوة المؤسسة الدينية والارتقاء إلى راحة البال والعيش المشترك بين الحساسيات والمذاهب بنبذ العنف والإرهاب، كذلك يمكنه أن ينفعنا بأن نضع حدّاً لسلطة الفقيه والداعية والمرشد، لأنّ علاقتهم بالمقدس لا تعطيهم قداسة فوق القدر، فهم بشر مثل البشر، بلا قداسة ولا عصمة. لهذا الغرض يتوجّب أن يخضع الجميع إلى سلطة القانون والدولة، الدولة التي هي ملك الجميع، لأنها ليست ملك أحد؛ حيث يجد فيها المواطن ملاذاً بالفرار من المظالم والتعديات، ويحتكم بأجهزتها كالعدالة والأمن، شريطة أن تكون هذه الدولة "ملك الجميع" (وأشدّد على ذلك)، وليست "ملك أحد"، ليست وسيلة في يدّ جماعة للدفاع عن مصالحها أو الاغتناء بعوائدها المالية (ونعرف تاريخياً أنّ الدولة تحوّلت في الأوقات العصيبة والأزمنة العجاف إلى وسيلة في يد زُمرة أو عصابة، كما حدث مع الفاشية والنازية، ومع الحزب الواحد في السياسة العربية).
-ما يحدث اليوم يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الحاجة الملحّة تاريخياً واجتماعياً للفلسفة التي تعرضت لسنوات للمنع من طرف الأنظمة السلطوية من شمال إفريقيا إلى الخليج، مع تفاوت في حدة هذا المنع لحساب تشجيع الفكر الديني المتصلب لسهولة محاججته ومخاطبته، بنظركم ـ كونكم مفكرين وباحثين في الفلسفة ـ كيف يمكن للفلسفة اليوم أن تلعب دوراً في الحد من العنف ونشر قيم التسامح والاختلاف وبناء الذات الحرّة المسؤولة والقادرة على مواجهة كل أشكال الوصاية؟
شوقي الزين: تاريخياً كانت الفلسفة العدوّ اللدود لكلّ مَيل سلطوي يسعى إلى التحكّم في العقول، لأن الفلسفة تحرّر العقول وتدفع الإنسان إلى التساؤل والبحث والتفتيش للارتقاء بوعيه وضميره. وهذه الخاصية التحريرية تتنافى مع النزوع السلطوي لمذهب أو تنظيم أو حزب يميل بالأحرى إلى تجهيل العقول ونشر ما كان يُسمّى في فترة من الثقافة العربية المعاصرة "الوعي الزائف". المشكلة مع الفلسفة أنه تمّ النظر إليها كمؤسسة فكرية تعادي المؤسسة الدينية أو السياسية، بينما الفلسفة هي أداة في التربية وفي الارتقاء بالحسّ النقدي والتاريخي. إنها رؤية ثقافية وحضارية في الحياة. ونعرف ما كان مصير التهجّم على الفلسفة، سواء من الطوائف الدينية المعادية أو من المذاهب السياسية: تمّ تشكيل أنظمة سياسية مقفلة تسوس الضمائر بيد من حديد؛ لكنها كانت تجهل أنّ الحرية البشرية التي يقوم عليها التفكير الفلسفي في رمّته هي بمثابة العنقاء (الفينيكس)، تخبو كالنار ولا تندثر؛ ثم تعود وتتوهّج في أزمنة الثورات والانقلابات فتدكّ الأنظمة السياسية أو الدينية دكّاً، كما وقع في التاريخ بالانقلاب على أنظمة دكتاتورية (الفاشية، النازية، ثورات العالم اللاتيني، الشرق-أوروبي، العربي، إلخ). فلا يمكن إذن، إخماد نار الحرية الدفينة في كل وعي، لأن الحرية بكل بساطة هي الهواء الذي يتنفسه الإنسان، إنها الأساس الذي بُني عليه الإنسان أنطولوجياً ونفسياً. فالإنسان هو الوعي بالحرية، منذ سقراط وحتى سارتر مروراً بديكارت وهيغل وهايدغر وحنه أرندت. عندما نفهم هذه الفكرة، نعرف لماذا كان هجاء الفلسفة كبيراً في التاريخ البشري، لأنها تُحرِّر، فيما التنظيم الديني أو السياسي يَسجُن ويَحصُر؛ فهي تهب أدوات هذا التحرير في التفكير المسؤول والخطابة والحِجاج والبرهنة والسجال والحوار وجدلية السؤال والجواب، بينما يكتفي التنظيم الديني أو السياسي بإملاء العقود والعقائد، والاكتفاء بالسرديات واليقينيات، وحظر التساؤل أو الفضول المعرفي.
-من الاستراتيجيات التي ترتكز عليها التنظيمات الإسلامية في العالم العربي الإسلامي، هي تخوين وتحريف القيم الكونية المؤسسة على مفاهيم، مثل: التقدم/العقلنة/الحرية/المواطنة/ الاستقلالية في الرأي... مفاهيم ذات حمولة علمانية، لكنّ التأويل الإسلاموي لها يتداولها بشكل يجعل منها مضادة لأخلاقيات مجتمعها، لكن الخلفية المحركة لذلك هي ضرب هذه المفاهيم والقيم الكونية بهوامشها التنويرية: ألا يشكّل هذا إيقافاً لحركية الوعي النقدي الذي نحن في حاجة ماسة اليوم لمطالبه ورهاناته؟
شوقي الزين: بكل تأكيد، تميل التنظيمات الإسلامية، بنوع من الحيلة والمناورة، إلى الالتفاف على القيم الكونية للإنسان (تقدم، حرية، عقلنة، مواطنة، استقلالية في الحكم والرأي، إلخ) وتقوم بتخصيصها في إقليم تاريخي وثقافي وجغرافي بالنعت المعروف: "الأسلمة"؛ وتبحث عن متقابلات (الشورى/الديمقراطية، مثلاً) للتوكيد على هذه الخصوصية. لا أنافي الخصوصية إذا كان المراد بها الترقية بالوعي نحو مهام حضارية وفكرية، ومن بين الداعين إلى الخصوصية الثقافية كان مثلاً يوهان هردر في ألمانيا، في سجاله مع الروح التنويرية السائدة آنذاك؛ لكن كان يوهان هردر أكثر ذكاءً وتفهّماً للطبيعة البشرية؛ أي أكثر وعياً بالشرط البشري الذي هو الحرية. عندما نقارن هذا الداعية المسيحي المتمسّك بالخصوصية الثقافية، نراه أكثر تطوّراً في عصره (القرن الثامن عشر الميلادي) من الداعية الإسلامي الذي عندما يتحدث عن الخصوصية الثقافية، فإنّ أول شيء يقوم بنفيه أو حظره هو أساسيات الوجود البشري؛ أي الحرية ! تنطلق التنظيمات الإسلامية من مسلّمة أو بدهية أنّ الانتماء إلى الطوق المغلق للديانة يفرض على المنتمين أو المعتنقين التضحية بحريتهم لنيل الرضى. قال البعض: لكنّ هؤلاء المنتمين والمعتنقين يجدون حريتهم في هذه الإحاطة الدينية، فلا يفقدون من حريتهم قيد أنملة. نعم، لكن ما بال كلّ هذا التضخّم في الخطاب الديني المعاصر، عبر المنابر أو الفضائيات، الذي إذا تحدّث عن الدين فإنه يتكلّم عن الأهوال والوعيد والعقاب والعنف أكثر من حديثه عن الأمل والوعد والحبّ والتسامح؟ وعندما يتحدث عن الحب والتسامح يتحدث عنهما كواقعية نصيّة أو خطابيّة (بالاعتماد على المرجعية الدينية) وليس كواقعة ملموسة ومعيشة. ندرك في هذه الخطابات الدينية نوعاً من المراوغة والاحتيال، بين الحديث عن الديانة بمنطق الحب والتسامح وعدم الإكراه والقهر، وبين الدعوة إلى فرض هذه الديانة بالسيف والتهديد والوعيد، لأنها ديانة الحق والحقيقة، ديانة المقدس والمطلق، فنسقط، كما نرى، في "فصامية" خطيرة. عندما أتحدث عن الحرية وعن كل القيم التنويرية، فإنني أجزم بالطابع الجوهري والأساسي للإنسان، وليس بطابعه العَرَضي؛ أي حريته في الإيمان أو عدم الإيمان، في اتخاذ القرار، في التفكير الحرّ والمسؤول، إلخ. لا معنى لأيّ تنظيم إسلامي (يعمل كأداة في الترويع أكثر منه وسيلة في الدعوة) إذا لم يضع نُصب عينيه الشرط المطلق، الأساسي، الجوهري، الأزلي، للحرية البشرية.
-الأستاذ محمد شوقي الزين، سبق لك أن أنجزت أطروحة حول متن ابن عربي، وهو من العارفين والفلاسفة الذين لا يمكن للدارس أن يموقعهم في حقل محدد، فإذا كانت الفلسفة المعاصرة اتجهت نحو التخلص من قبضة هيجل كما يرى فوكو-أي التخلص من الروح النسقية-: ألا يمكن القول بأننا في حاجة إلى استيعاب واستعادة ابن عربي للتخلص من وجهه المضاد؟
شوقي الزين: تماماً، يتخذ مذهب ابن عربي صيغة نسقية مكتملة. وكما كتبتُ في إحدى الرسائل إلى جاك دريدا سنة 1998، أن ابن عربي في منعطف القرنين 12 و13م كان بمثابة هيغل في منعطف القرنين 18 و19م؛ لأن الميتافيزيقا الإسلامية اكتملت بالفعل، وبشكل نسقي ونظري، مع ابن عربي، حيث كان مذهبه حوصلة نظرية، بالبلاغة اللغوية والكثافة المفهومية، لكل التشكيلات الخطابية والفلسفية التي جاءت من قبله. لقد تحدثنا من قبل عن العودة إلى الأصل لاقتدائه أو احتذائه وكيف تكون هذه العودة هي بنائية لثقافة أو حضارة، والجواب بالنسبة لي هو: ابن عربي، عندما عاد إلى الأصل، أقصد المرجعية الإسلامية المعروفة (القرآن والخبر)، فإنه شيّد مذهباً نظرياً محكماً بالقوّة البلاغية والفكرية المنقطعة النظير. هذا ما نحتاج إليه فوراً، في الأزمنة العجاف التي نحياها. أقصد بذلك أنّ العودة إلى الأصل هي دائماً اكتشاف قارة نظرية وابتكار لغة فلسفية؛ أي المساهمة في تأسيس بنية حضارية. هذا ما فعلته مثلاً الرومانسية الألمانية في عودتها إلى الأصل الإغريقي. فهي لم تستنسخ هذا النموذج بقدر ما أسهمت في تشكيل ثقافة غنية في الأدب والشعر والفلسفة والعلم والفن وخلّدت روائع وتُحف لا تزال تشكّل اليوم مرجعية حاسمة. عندما تواصل ابن عربي مع المرجعية الإسلامية، جعل منها ينبوعاً في العطاء الأنطولوجي والتفكير الفلسفي والإبداع الأدبي والفني، فابتكر نسقاً منسجماً من الممارسات الخطابية والوقائع الفكرية. الأخذ بفكر ابن عربي هو إذن التخلّص من وجهه المضادّ الذي عندما يعود إلى الأصل فإنه يستنسخه في أبشع النماذج: عنف، قهر، دكتاتورية، بربرية. وشتّان بين التوجّهين: توجّه يفجّر في الأصل إمكانات ورؤى تبعاً للقراءات والتأويلات السياقية (كما فعل ابن عربي في زمانه وبأدوات فكره)؛ وتوجّه يسجن الأصل ويحتكره، يتحدّث باسمه ويحوّله إلى سلاح للتدمير والترهيب.
-تسعى التنظيمات الإسلامية اليوم إلى احتكار وفرض تأويل واحد ووحيد للنص الديني، انطلاقاً من رؤيتها الظاهرية والحصرية. أما ابن عربي، فيجعل النص الديني مفتوحاً على إمكانيات وقراءات ذات بعد رمزي وإشاري يصعب على رجل الدين استيعاب هذه الإمكانيات التي تؤسس لتدين جوهره المحبة والحوار مع الآخر المختلف. كيف تنظرون إلى هذا التأسيس الوجودي للعلاقة مع الآخر في الأفق الأكبري؟
شوقي الزين: إنّ التوجّهين اللذين تحدثتُ عنهما يبرزان رؤيتين مختلفتين إلى المرجعية الإسلامية نفسها: 1- رؤية توسّع الآفاق، تلتقي بالآخر، تحتفي بالاختلاف، لأنها تبحث عن المشترك في الجنس البشري ولا تستسلم إلى هواجس التجنيس والخصوصية؛ 2- رؤية تضيّق الآفاق، تتميّز عن الآخر في كل شيء، مهووسة بالخصوصية وبالتمركز الذاتي في نرجسية عقيمة. هذا شأن العديد من التنظيمات الإسلامية التي تعوّدت على اجترار خطاب ماهوي وهووي (نسبة إلى الهوية) أسّسته بعض الشخصيات النافذة (ابن تيمية، محمد بن عبد الوهاب، المودودي، حسن البنا، سيّد قطب، إلخ)، تتسلّح من ورائه وتتاجر به في أسواق التبادل الرمزي. فهي تخضع بالتالي إلى منطق مغلق، يميل إلى النظر نحو الداخل لا الخارج، منطق نرجسي يدور حول ذاته، ولا يرى العالم أو الآخر سوى وهم أو مجاز، لا الحقيقة واليقين. فقراءتها للنص أو المرجعية الإسلامية هي قراءة تنصبغ بهذه النظرة الأحادية، التمركزية، النرجسية، الاستعلائية، الإقصائية، لأنها لا تبحث عن المشترك بين بني البشر من قيم ورموز، ولكن تنفرد برؤيتها الخاصة التي تمنحها الإطلاقية واليقينية والثبوتية. عكس ذلك، كانت الرؤية التي أسّسها ابن عربي رؤية تتركّز في الداخل ولا تتمركز، ثم تتجه نحو الخارج لتلتقي بالآخر وتشترك في بعض الجوانب أو النقاط للثقافات الأخرى؛ فتؤسّس لرؤية تضرب بجذورها في الأعماق وترمي بأغصانها وأوراقها في الآفاق، فتشكّل شجرة "تتشاجر" مع الغابة البشرية المحاذية، وأستعمل هنا "التشاجر" بالقوّة البلاغية والأنطولوجية التي نظّر لها ابن عربي: "التشاجر" ليس كنزاع ولكن كتداخل وتشابك بين الهمم البشرية التي تصبو كلها إلى الحقّ ولا تعرف الحقيقة سوى كونها طريقة في الاشتغال على الذات بالتجربة والتربية. ندرك إذن، كيف تختلف الرؤيتان؛ رؤية تحيا في "هذيان" امتلاك الحقيقة، ورؤية تبحث عن الحقيقة في ظواهر السفر والتجربة والمحنة ولا تعثر عليها سوى بقناعة التعثّر أمامها وعدم الوصول إليها مطلقاً. عندما نقارن بين الرؤيتين، ندرك مدى عُقم الأولى ومدى عُمق الثانية.
-من استراتيجيات الفكر الأكبري رفع المنازعة، واليوم نجد أن الثقافة السائدة محكومة بفكر المنازعة، والتي تتجلى في حقول متعددة وتسميات مختلفة، نجدها في الدين، تحمل صيغة صراع الثقافات والأديان، وفي السياسة تحمل تسمية (صراع الاعتقادات والإيديولوجيات): أما الشيخ الأكبر فإنه يعتبر هذا النزاع هو وضع قابل للتجاوز لأنه "جرحة طارئة" يمكن استبدالها بكيفية الجمع بين "الكلام والمشاهدة"، فكيف يمكن تجسيد هذه التجربة ذات الأفق الروحي في حياتنا اليومية الممتلئة بأشكال النزاع المتعددة؟
شوقي الزين: الصراع أو النزاع هو حقيقة كونية تمتدّ في كل دقيقة بشرية أو رقيقة وجودية، سواء كانت حيوانية أو بشرية أو إلهية. جعله هيرقليطس "أبا الأشياء كلها"؛ وجعله فرويد في الأزمنة الحديثة الشاهد على أغوار النفس البشرية. لا شيء في هذا الوجود (وجود مادي أو روحي، حيواني أو بشري، إنساني أو إلهي) يخلو من الصراع. لكن لنتوقّف ملياً عند حقيقة هذا الصراع ولا نفهمه بطريقة سهلة ومبتذلة على أنه الشقاق والاقتتال. الحرب هي فقط مظهر جزئي من الظاهرة الصراعية الكونية، ولأن الحرب يديرها أيضاً العقل بالأدوات والتقنيات، بالاستراتيجيات والتكتيكات، بالحسابات والمناورات؛ أي أن الحرب التي نعتبرها "اللامعقول" لأن فيها العنف والعدوان، هي أيضاً من تدبير العقل. عندما نتحدث عن الصراع، فإننا نتكلم عن حركة الوجود بما يحمله من نقائض ونقائص وتمييز جنسي وعرقي وطبيعي. الوجود هو حامل تناقضات في الطبيعة كما في العقل، وتتصارع هذه التناقضات من أجل الأمثل والأرقى، من أجل الأجود والأحسن، فهي تنافح عن ميزة أو سمة أو تناضل من أجل إقليم أو مزية؛ فيكون الصراع هنا المحرّك الأساسي للوجود وسمته البارزة. لا يكون فقط عنوان النقيصة (ولا بدّ من ذلك، ما دامت الطبيعة حُبلى بالنقائص من جراء النزاع بين الحيوانات من أجل الذود عن إقليم أو البحث عن فريسة لإشباع غريزة)، ولكن أيضاً دليل حيوية ودينامية، وأكثر ما يتجلى ذلك في العالم البشري بالمنافسة والمزاحمة على الصعيد الثقافي والحضاري. بالطبع، نسمع بين الحين والآخر، أو نقرأ بين الفينة والأخرى مقالات أو مقولات من قبيل "صراع الحضارات" أو "كفاح الإيديولوجيات"، ونسمع ذلك أو نقرأه من قبيل "السلبية" الكامنة في الإرادات والقوى؛ بينما الصراع هو أيضاً الحامل لإيجابية دفينة إذا ما نظرنا إليه لا "المعول" في الهدم، ولكن "التعويل" في فهم حركة البشر وسيرورة التاريخ. وهذا ما عمل به هيغل مثلاً بتبيان الطابع الجدلي والدينامي للتاريخ، الطابع السجالي والصراعي بين مكوّناته وأجزائه، والذي يذهب قُدُماً نحو التوليف والمجاوزة. لفهم هذا الصراع المؤسّس، يمكن القول إنّ له دافعاً وكابحاً: 1- أما "الدافع" فهو غريزة أو شهوة، تتجلى في السيطرة والهيمنة أو حبّ الظهور والامتلاك؛ 2- وأما "الكابح" فهو العقل إذا كان المراد به توجيه الصراع نحو غايات بنائية وتشكيلية، ولا يكون الذريعة في تبرير الهيمنة كما عالجت ذلك مدرسة فرانكفورت (خصوصاً أدورنو وهوركايمر) في نقدها للعقل الذرائعي-الحسابي.
دوافع الصراع عديدة ومتنوّعة وتشكّل كلها الطابع "الصحي" من الوجود، وكوابح الصراع مختلفة (العقل، الأخلاق، الدين..) والغرض منها تفادي الطابع "المَرَضي" من هذا الصراع، حتى لا يكون أداةً في الهدم والخراب، ولكن فقط مساحة السجال وردّ الفعل بتفريغ شحنات الحميّة وملأ القوى بإرادات الحوار والفهم والاستيعاب. عندما نفهم الآخر ونتحاور معه، فإنّ دواعي صراعه تزول ودوافع نفيه وإقصائه تضمحل. لربما لم نصل بعدُ في التاريخ البشري إلى نقطة التوازن التي يكون فيها الصراع عبارة عن دينامية خلاقة وبنائية، تحوّل الطاقات إلى اجتهادات، وتحوّل الابتكارات والدوافع السلطوية والإغرائية إلى دواعي معرفية وحوارية. لم يرتقِ الصراع بعدُ إلى هذه الفلسفة الكونية في الصراع من أجل التعارف، وليس فقط الصراع من أجل الاعتراف كما نظّر هيغل لذلك. لكن يمكن الاستنجاد ببعض الأدوات كاللغة مثلاً التي هي وسيلة في التعارف، لأن اللغة هي حاملة عقل وتفكير بالمعنى العريق لكلمة "لوغوس"؛ فعندما نتحاور، فإن اللغات والثقافات هي التي تتعارك بالمعنى الإيجابي للكلمة. عندما نتحدث عن "الكلام" (الحوار إذن)، فإننا نضمّد فيه ذلك "الكُلم" الكامن في جذره اللغوي والأنطولوجي؛ أي الجرح، ونعالج هذا الجرح بالقول. نعالج الكُلوم بالكلمات تماماً، مثلما يفعل المحلل النفسي في علاج آلام النفس؛ أو طبيب الحضارة في علاج أمراض الزمن. "الكلام" (الحوار، العقل، المخاطبة، إذن) هو الذي من شأنه أن يلطّف كثافة الصراع ويمنح للمظاهر العجماء للطبيعة البشرية (المظاهر المبهمة والصامتة) القوالب اللغوية لتحديد ماهيتها وخاصيتها، ثم علاجها وتوجيهها.
-في تاريخ الفكر العربي، نجد أن متن ابن عربي عرف شرّاحاً وشراحاً للشراح، وهو متن كان موضوع اعتراف من طرف المؤيدين، ورفضاً مفرطاً من طرف المعارضين، وأما اليوم فإن اهتمام الغرب بهذا المتن هو أقوى من اهتمامنا نحن، وهناك من يرجع هذا الاهتمام إلى تلك المأساة الكبرى التي عرفتها هذه المجتمعات إبان الحرب العالمية الثانية: فهل إمكانية نبذ وضعيات القتل والقتل العنيف تتطلب العودة إلى روح الدين بقوته النيرة والجمالية؟
شوقي الزين:إن الاهتمام المتنامي للغرب بمتن ابن عربي لم يكن لغاية اتقائية كما يتوهم البعض، وسمعت ذلك من حولي؛ أي أنّ البعض يعتقد بأن الغرب يهتم بابن عربي لأنه الممثل الشهير للتصوف، والتصوف هو مذهب التسامح والحب والعالمية. وبالتالي لمكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة، فإنّ الغرب لجأ إلى تشجيع الطرائق الصوفية. هذه قراءة مبتذلة في حقيقة المسألة، الاهتمام بابن عربي هو نتاج الاهتمام بعمق النظرة وبعالمية الكتابة التي تحلى بها متن ابن عربي. ينبغي الاعتراف أيضاً بأنّ الغرب وجد شريك الحوار في الإسلام مع التصوف وليس مع الإسلام السياسي؛ أي مع الرؤية الكونية للحياة، لا مع الرؤية الضيّقة والمهووسة بالهوية والخصوصية. لماذا هذا الاهتمام بالتصوف عموماً وبابن عربي خصوصاً؟ لسبب بسيط، وهو أنّ الحركة الكاثوليكية في المسيحية كانت حركة صوفية (وهذا يجهله الكثير من الناس). فهي حركة عرفانية كانت لها السلطة الدنيوية، أفلحت في بعض الجوانب وأخفقت في العديد من الجوانب الأخرى، خصوصاً فيما يتعلق بسياسة الضمائر عندما تحولت سلطة الكنيسة إلى محاكم في التفتيش بقهر المذاهب الأخرى، الموازية أو المعادية، وباتخاذ عقيدة الصليب في محاولة الافتكاك بالأقاليم المسيحية في الشام من يدي الإسلام (نعرف جيداً تلك المناظرة عن بُعد، وبالسيوف بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد الأول). لكن العقيدة التي بُنيت عليها الكاثوليكية ـ وهي الثقافة الدينية البارزة والمهيمنة في تاريخ الغرب ـ هي عقيدة صوفية، وإليكم بعض الشواهد: 1- آلام المسيح (وليس غريباً أن يجد لوي ماسينيون مقابلاً عند الحلاج) والتعاليم التي جاء بها كانت ذات ميول روحية قوية؛ 2- فكرة التجسيد والحلول هي فكرة صوفية عابرة للأزمنة: من الرواقية إلى الصوفية الإسلامية مروراً بالكاثوليكية. لا نجد مثلاً التجسيد عند البروتستانتية التي تخلو كنائسها من تماثيل اليسوع والعذراء وأضرحة الأولياء عكس الكاثوليكية؛ 3- شيوع فكرة الأولياء والقديسين والتردّد على أضرحتهم عند الكاثوليكيين، وهي ثقافة تشترك فيها أيضاً الصوفية الإسلامية.
فكما نرى، هناك أوجه في الشبه بين الثقافة الكاثوليكية والثقافة الصوفية في الإسلام. لهذا السبب، وبعد أفول السلطة الدنيوية للكنيسة الكاثوليكية، فإن الغرب احتفظ بالسلطة الروحية والتراتبية في شكل آباء الكنيسة (يتوّجها البابا)، ووجد في الصوفية الإسلامية "مرآة" يرى فيها ذاته وتاريخه، لأن الصوفية الإسلامية لها الميزات نفسها التي تتمتع بها الكاثوليكية، رغم الاختلاف في العقيدة طبعاً، ناتج عن الاختلاف الجوهري بين المسيحية والإسلام. لكن، كما كتبتُ من قبل، هناك مذاهب تتجاذب كالمغناطيس، حتى وإن كانت تنتمي إلى عوالم ثقافية ودينية مختلفة راديكالياً. لهذا يميل الغرب بتاريخه المسيحي، والكاثوليكي المهيمن (خصوصاً في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا، والبروتستانتي الموازي والمتنافس في أجزاء عديدة من ألمانيا وسويسرا وإرلندا: تاريخياً على الأقل)، على الاقتراب من المذاهب التي تشابهه نظرياً ووجد ذلك في التصوف الإسلامي. لهذا الغرض يهتم بما أنتجه هذا التصوف مع أسماء لامعة في الفلسفة (الغزالي، ابن عربي، ابن سبعين) والأدب والشعر (الحافظ، جلال الرومي)، إلخ؛ ويرى فيه خير "شريك" في الحوار والتبادل.
-تنعت تجربة ابن عربي بالتجربة التحريرية كما يراها عثمان يحيى ببعدها الحواري والتواصلي: فهو حاور الشيوخ المرئيين واللامرئيين وحاور الملوك ورجال السلطة والفلاسفة، دون الاتباع أو الرفض، بل بقي في عمق تجربة "نعم، ولا"، وهذا سلوك نستشف منه زعزعة لسلطة الفقيه (الظاهرية): ألا يمكن اعتبار انخراط الفكر العرفاني في الحياة اليومية سياسياً واجتماعياً محكوماً عليه بأن يكون غير مباشر، دون الانغماس في السائد والمباشر أو العادي والاعتيادي؟
شوقي الزين:صحيح، لا تقترب التجربة العرفانية من اليومي والاعتيادي ولا تبتعد عنهما. لكن الأمر الأساسي هو أنها ترى في اليومي أو العادي نتاج تجليات الحقّ؛ فكلّ حقير، في منظورها، هو جليل لأنه مجلى الحق، وكلّ ظاهرة عادية من حجر وشجر ومدر هي علامات تدل على الحق الكامن فيها. تجربة ابن عربي هي تجربة "نعم و لا" كما أوردتم في السؤال ولها واقعة تاريخية، وهي حواره المقتضب والرمزي مع ابن رشد. أتكلم من جهتي عن تجربة "هو لا هو"، لأنها أوسع من حيث البنية والمضمون. عندما نتحدث عن "هو لا هو"، فإننا نتكلم عن الجمع بين نقيضين، من حيث أن الحق هو الأشياء وما الأشياء هي الحق. نضع أنفسنا في مجال سمّاه الكاردينال الكاثوليكي نيكولا الكوسي Nicolas de Cues "تواطؤ الأضداد"، وقبله سمّاه ابن عربي "علم تآلف الضرّتين". كذلك التجربة العرفانية هي رؤية فينومينولوجية للأشياء، قائمة على "الرصد" بافتراس (من "الفراسة") حقيقتها؛ وعلى "الصدر" (إذا استعملتُ القلب اللغوي) بتحيُّن صدورها الأصلي ومآلها البعدي. والمجال الجميل والجليل، الذي تتبدّى فيه التجربة العرفانية برؤيتها الفينومينولوجية والتأويلية، هو مجال اليومي والعادي، ذلك المجال الذي يُبهر ببساطته ولكنه من التعقيد والكثافة ما يتطلب أدوات ونظرات، فقط لأنّ «السطح هو أعمق الأشياء في الوجود»، كما قال فتغنشتاين في ما معناه. فينبغي الولوج في الظواهر من وراء المظاهر، أو يتوجّب التكهّن بوجود ظواهر غائرة من وراء المظاهر السطحية. ولا يكون ذلك بضرب من الخيال والتوهّم، ولكن بطريقة منهجية في تقصّي الحقائق والولوج في "غور الأمور" كما سماه الحكيم الترمذي؛ وهذه الطريقة هي مزدوجة، عقلية ووجدانية، بين ما يدركه العقل بالمبادئ الموضوعة فيه، وما يدركه القلب بأدواته الذوقية والباطنية. يكتسي اليومي إذن صفة فينومينولوجية تذهب إلى ما وراء شيئيته البسيطة، لأنها تدرس موقعه في عالم الأشياء المحيطة به؛ والوعي الذي يدركه ويحدس جوانبه المعقولة أو المشهودة. بهذا المعنى توفّر التجربة العرفانية بعض الجوانب الفينومينولوجية والتأويلية في الاضطلاع بشيئية الوجود والكيفية التي يطلع فيها أمام الوعي كطلوع الشمس وبروزها للعين. وفي ذلك أطنب الخطاب الصوفي حول شيئية الوجود بالتركيز على طابع الفيض والعطاء، تبعاً لمقولة ابن عربي الشهيرة: "عن الجود صدر الوجود"؛ وتبدو الأشياء في الحياة اليومية حُبلى بهذا الجود الوجودي لمن تفقّه المسألة بعين غائرة؛ سيلان دائم وعطاء لا ينضب.

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013


الدارجة في التعليم، إصلاح أم تهور؟

عبدالواحد رشيدي


  لا حاجة إلى التأكيد أن الأمر مجرد فقاعة فارغة، إذ لايجرؤ أي مسؤول جاد على المقامرة بمصير التعليم بالمغرب بناء على دعوة فارغة المضمون كما سنرى..
ليست هذه هي المرة الأولى التي يثار فيها موضوع الدارجة بالمغرب بعد أن أثير في مصر في الستينيات من القرن الماضي. ورغم اختلاف التجربتين، إلا أن الدعوة هذه المرة في المغرب تحاول، عن وعي أو بدونه، أن تحرف النقاش عن قضية إصلاح المنظومة التربوية وراهنيتها بافتعال هوامش يتلهى بها الناس.
لقد سبق فيما مضى أن قارن البعض وضعية اللغة العربية اتجاه لهجاتها الدارجة في الأقطار العربية باللغة اللاتينية بالنسبة للغات الأوروبية التي نعرف اليوم.. قارن اللغتين ولم يقارن المجتمعات عن جهل أو سوء نية.. لنتذكر أن الإصلاح اللغوي في أوروبا قد بدأ منذ القرن 16م بموازاة الإصلاح السياسي والاجتماعي. وتبقى التجربة الفرنسية نموذجية في هذا الباب. لم تعتمد الفرنسية في التعليم إلا في القرن 19م على يد نابوليون، وذلك بعد أن قامت ثورة كبيرة، كما هو معلوم، قلبت النظام القديم واستبدلته بنظام جديد، قوامه العقلانية في مقابل الكهنوتية، الإبداعية في مقابل الاتباعية، الانتاجية في مقابل الريعية، المساواة في مقابل الامتيازات، الحرية في مقابل السخرة,, آنذاك طُرح السؤال عن أي مجتمع نريد لأي مواطن؟ فظهرت السوسيولوجيا ومعها العلم الموضوعي كأساس للمعرفة، فبدا واضحا ما يجب أن يتعلمه المواطن في المدرسة وبأي لغة.
إلا أن ما ينساه أو يتناساه دعاة الدارجة عندنا، أن المعجم الفرنسي قد بدأ العمل فيه ابتداء من القرن 16م (1573م) حيث تم نقل الألفاظ اللاتينية إلى الفرنسية، ليكون أساس أول معجم فرنسي سنة 1606م على يد جان نيكو (Jean NICOT). ومنذ ذلك الحين والمعجم الفرنسي يتجدد إلى اليوم, وفي سنة 1780م قام لومون (L'abbé LHOMOND) بوضع قواعد النحو الفرنسي لأول مرة، وكان يجب انتظار حتى سنة 1809م ليظهر أول كتاب مدرسي لتعليم الفرنسية في الابتدائي على يد مورلي و ريشاردو(Morlet et Richardot  : Cours de langue française à l'usage des école primaires) في عهد نابوليون الثالث,
وبالموازاة مع هذا العمل البيداغوجي الأساسي، كان هناك إنتاج معرفي مواكب باللغة الفرنسية. لاننس أن ديكارت ألف “المقال في المنهج” سنة 1637م أول مِؤلف فلسفي في الفرنسية، وأن رابلي (Rabelais) ألف أول الروايات بالفرنسية قبل ذلك، سنوات 1532-1564م٫٫ أما الكتاب المقدس فقد بدأت ترجمته جزئيا في القرن 13م ولم تتم ترجمته بالكامل إلا في عهد شارل الخامس سنة 1377م على يد راوول دو بريل (Raoul de Presles).
فهل دعاة الدارجة عندنا يستخفون بذكائنا عندما يضعون العربة أمام الحصان؟
إذا كانت نيتهم صادقة، فعليهم الإجابة عن هذه الأسئلة  :
  • أين هو المعجم المتجدد للدارجة الذي يمكن أن يعود إليه أي متعلم للغة؟
  • أين هو العمل اللساني الذي يضع قواعد النحو لتوحيد مجموع اللهجات المستعملة في كل المناطق المغربية، (لنتذكر لغة الأويل والأوك في فرنسا Oïl/Oc)؟
  • أين هي المعارف العلمية والفلسفية التي تم إنتاجها بالدارجة والتي ستدرس في المدارس والجامعات؟
  • أين هي الترجمات الدقيقة لمصطلحات العلم والتكنولوجيا والتي تخصص لها الدول الأوروبية ميزانيات ضخمة؟
  • أين هي الآداب النثرية من رواية وقصة وأقصوصة ومقالة باللغة الدارجة، التي من المفروض أن تكون مادة تعليم اللغة؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير، تخفي في الحقيقة السؤال الأساسي والجوهري فيما وراء مسألة اللغة والتعليم  : أي مواطن نريد لأي مجتمع؟؟؟ وهو سؤال مازلنا لم نحسم في الإجابة عنه، وغيرنا فعل.. في أوروبا منذ قرون. وهنا بالضبط تكمن معضلة إصلاح التعليم.
فعندما يدعو السيد إدريس كسيكس (بلغة دارجة رديئة) إلى اعتماد الدارجة في التعليم، وهو صحافي فرونكوفوني.. فلا يمكن إلا أن نتساءل إن كان يستطيع كتابة نص صحافي واحد بلغته الأم  : الدارجة المغربية، مع سهولة الأمر بالمقارنة بالمعارف العلمية والفلسفية والأدبية؟؟ وإلا فكلام الليل يمحوه النهار.. أما بخصوص السيد نورالدين عيوش الذي لايعرف إلا الفرنسية ولا يعيش إلا بها، فلا يسعنا إلا الابتسام.. بغض النظر عن خلفياته.
عبدالواحد رشيدي


الجمعة، 30 أغسطس 2013

"الحزب الإلهي" أو عندما يصبح الله فاعلا سياسيا

أحمدعصيد
"لا داعي للتصويت على الله فهو لم يرشح نفسه"، هكذا خاطب أحد المثقفين المصريين مواطنيه الذين استغربوا لقيام بعض مرشحي الإخوان والسلفيين في الانتخابات المصرية بنعت أنفسهم بـ"المرشح الرّباني" و"المرشح الإلهي" إلى غير ذلك من الألقاب السريالية، والصفات المثيرة للسخرية.

الاثنين، 12 أغسطس 2013

عنف السلطة من المسؤول ؟

أحمد عصيد
زفّ إلينا السيد وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة خبرا سارا مفاده أن السيد وزير الداخلية قد أخبره بأن "التحقيق" جار لمعرفة من المسئول عن ضرب المتظاهرين أمام البرلمان ومعاملتهم بوحشية، والحقيقة أن على السيد الناطق الرسمي أن يخبرنا قبل هذا بمصير التحقيقات السابقة التي مضى عليها شهور طويلة، والتي لم يفض أي منها إلى أية نتيجة. ففي كل مرة تمنح السلطات الأمنية لنفسها الحق في ضرب الناس وإهانتهم بدون مبرر واضح، وفي كل مرة يأتي من يقول إن التحقيق جار لتحديد المسئوليات، ثم بعد ذلك لا شيء إلى أن يحدث عنف آخر.

الخميس، 8 أغسطس 2013

اغتصاب الأطفال طابو مغربي عريق

أحمد عصيد
يتناول البعض موضوع اغتصاب الأطفال كما لو أنه واقعة معزولة، مرتبطة بشخص أجنبي، صدر عنه عفو تم إلغاؤه وتقديم موظف سام كبش فداء لتخفيض التوتر، وقد تعود الأمور إلى نصابها إذا اعتقل الجاني من جديد لكي يكمل عقوبته بالمغرب أو في بلده الأصلي.