الخميس، 27 يونيو 2013

• تأويلية "الذاكرة الدينية" و"معركة الشارع" بين الإسلاميين و العقلانيين.(1/5)

عبد الـواحـد ايــت الزيـن
   المغرب  -   ابن جرير 
                                                          "لقد أوضح نيتشه، ومن بعده ميشيل فوكو
                                                                     و في أكثر  من موقع،  بأن معنى الأشياء - كانت
                                                                      ما كانت-  لا يُعرَف بغير معرفة القوة  التي  تتملك
                                              الشيء، وتعبر عن نفسها فيه"

                                                    *** *** ***
  " ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون...أ تامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"،(القرآن الكريم، سورة البقرة، الآيتان، 41 و43).
" ... الدين الحق لم يوجد للفخفخة المظهرية، ولا لسيطرة الإكليروس، ولا للعنف، بل وجد لتنظيم حياة الناس وفقا للفضيلة والتقوى. " ( جون لوك، "رسالة في التسامح"، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى 1988، ص 65).
   " هذا هو بلد الملل والنحل، ويذهب الإنكليزي، كرجل حر إلى السماء من الطريق الذي يروقه".( فولتير، "الرسائل الفلسفية"، ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف بمصر، 1959، ص31).
   "اخرج إلى الطرقات والدروب وألزم الناس بالدخول حتى يمتلئ بيتي"( إنجيل لوقا، الإصحاح 14، العبارة 23).
                                           
*** *** ***
                                                                               
   غالبا ما يكثر النقاش حول سؤال التدين مع حلول كل مناسبة دينية، فتطالعنا بعض الكتابات، التي تحاول جاهدة مقاربة المسألة الدينية الإسلامية، كتابات قد تتوزع على جهتين، الأولى تحاول الظهور بمظهر السيف المدافع عن دين الله الحق، والثانية تتلبس بلبوس المنتقد لذلك.لابد أن نسجل أن الطائفتين معا، تنقسمان بدورهما إلى عدة فرق، محاولتنا هذه، محاولة لإبداء النظر في المتطرف من الفرقتين، الفرقة التي تغالي في دفاعها عن الإسلام، لدرجة التكفير وإعلان الارتداد، والإفتاء بالقتل، وغيرها من الممارسات والأقوال التي تحسب على التشدد العقدي، ثم الفرقة التي ترى بأن استقامة المواجهة، تقتضي من ضمن ما تقتضيه، نقدا متطرفا لآخرها، مما جعل مكتوبها، يبدو وكأنه " قصيدة هجاء وشتائم"، مبذولة في حق أغيارها من المتدينين، لنطرح راهنية "الفكر العقلاني" في الاشتغال على فضح"تطرف الفرقتين معا"، وفاء لمنطلقنا القائل بأن الدين "مسألة فردية" تعود إلى الاختيار الحر للأشخاص، وأن ضمان "حرية المعتقد" يرتبط بطريق طويل ومتدرج، يبدأ أساسا بالوعي بأهمية "السلاح الديني" في معركة الشارع، وبالتالي الحرص على "الاستناد" إليه لخدمة الفكر العقلاني التنويري، ولعل المتتبع لمثل هذه المواقف، سيجد أن الإسلامويين لا يفوتون فرصة تجييش "الشارع" ضد "الحداثيين" باسم "الدين"، وأن هؤلاء – أي الحداثيين- قد أغفلوا فعالية هذا "السلاح"، رغم اكتوائهم بناره أكثر من مرة، وربما آن أوان استخدامه ضد الحركات الإسلامية ك"تكتيك" جديد في معركة الشارع بين "الفكر العقلاني" و" التشدد الإسلامي". 
   إن العقيدة شأنها في هذا الصدد شأن كل النزعات الكليانية، ترى الوجود وحدة مطلقة يؤثثها الانسجام والتطابق التام والمطلق، ولعل العقيدة الإسلامية ليست بمنأى عن هذا النزوع، طالما اعتقد أصحابها في كونها مرسلة للناس كافة، بل و لربما حتى إلى باقي ممكنات الوجود الأخرى من حيوان، ونبات، وجماد، وجن، وملائكة ، فكان أن حمل المسلمون – بمختلف تفرعاتهم- على عاتقهم مهمة نشرها، واختلفت الأساليب المنتهجة في ذلك بحسب الشروط التاريخية، وبحسب موازين القوى المحددة لطرق "أسلمة الوجود".
   في البداية كانت دعوة سلمية ركزت أساسا على إبراز اختلالات القبائل العربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك، مع محاولة إيجاد طرق "غريبة" على العرب لحلها ومعالجتها، باستثمار الذكاء البشري و الملكات العقلية التي اختص بها نبي الإسلام ،( حل مشكل الحجر الأسود من طرفه (ص) نموذج لهذا الذكاء، بالنظر إلى عصره،أما اليوم فأغبى كائن بشري سيقترح ما اقترحه النبي في تلك الفترة !) ، الأمر الذي جعل القرشيين يتهمون الرسول بالكذب والبهتان والسحر، لأن الغالب الأعم على روح عصرهم كان ثقافة أساطير، ووجدان ،وشعر، ولغة شفوية ،وعشق، وجواري، وغلمان،وخليع، ولا علاقة له بثقافة العقل والمنطق والبرهان... ثقافة تذكرنا على الأرجح بالجوقة الديونيزية(نسبة إلى الإله ديونيزوس)، التي ختمت[1] الحضارة الإغريقية، قبل أن "يهوي" بها المشروع السقراطي الأفلاطوني  إلى منحدر المنطق و العقل والفلسفة[2]، فألا يصح لنا أن ننزل "نبي الإسلام" منزلة سقراط نفسه، مادامت هناك العديد من التقاطعات بين الاثنين، مما يعني النزول بالحضارة العربية منزلة الحضارة الإغريقية؟ وذلك على غرار العمل الذي قام به الفيلسوف والروائي "جوستاين غاردر" عندما خلص من مقارنته بين المسيح عيسى وسقراط إلى تشابههما في العمل الذي قاما به، مما يطرح إمكانية أن يكون سقراط نفسه أحد الأنبياء !!! في حالة مصادرتنا على حقيقة النبوة.
   قد يصح الأمر، لكن ليس بمعنى التطابق التام، لأن هناك اختلافات جوهرية بينهما، من قبيل اختلاف الشرط التاريخي والجغرافي لكل منهما، فإذا ما وجد الإغريق امتدادا لهم  في الحضارة الغربية، فإن الإسلام قد نحا منحى آخر بفضل ذكاء  الرسول (ص )، وقدرته على حل تناقضات المجتمع العربي آنذاك، وبخاصة أنه شكل قوة تأثيرية في قلوب العرب ووجدانهم، وهم الأمة التي عرف عنها تقديرها لحسن الكلام وبديعه، مما يسر العديد من العقبات أمام الإسلام، وكان مدعاة لانتشاره بالشرق المعروف بغلبة الطابع الخيالي الأسطوري على نمط عيشه، دون الغرب الذي اختلطت الأساطير لديه دوما بانبثاق محاولات عقلانية، هذا ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن الامتداد الإغريقي كان في معظمه امتدادا فكريا و بالفكر فقط، أما الإسلام فقد كان له السلاح والترهيب أحيانا وسيلة من وسائل التوسع !!!
   لنعد إلى ما سبق وعزمنا مباشرة تحليله، قبل أن ننزاح عما عزمنا عليه، بسبب مقتضى الكلام ، فبالإضافة إلى القدرات العقلية التي أجاد رسول الإسلام تشغيلها، فقد وظف كذلك بلاغته الكلامية الفصيحة ، وعقله العملي الأخلاقي( مفهوم كانطي)، ومن المعروف الأهمية القصوى التي حظي بها هذا الجانب لدى العرب، فقد عرف عنه تمتعه بمكارم الشيم و الأخلاق والزهد في المصالح الشخصية الضيقة، -  الأمانة التي عرف بها الرسول الكريم، وبخاصة عند تكلفه بتجارة من ستصير زوجة له بعد ذلك خديجة بنت خويلد - كل ذلك ساهم في رسم معالم "الشخصية المسلمة" قبل نزول الوحي، فالمبادئ المعاملاتية التي جاء بها القرآن كانت في جزء منها تجليا من تجليات سلوك محمد(ص)، مما يدل على الذكاء الخارق الذي تمتع به النبي، ويجعل الحديث عن أميته وعدم إجادته للقراءة والكتابة محط مساءلة وتشكيك[3]، وقد شكلت أمانته وصدقه جاذبية لسكان القرى والقبائل العربية، ولعبت دورا مهما في شهرة محمد(ص)، خاصة لدى الكداح والعبيد منهم ، والسبب لم يكن فقط "الجاذبية العقدية"، بل نظرا للمنافع التي يتيحها الإسلام كدين لمعتنقيه  من تحرر وعدالة في الحقوق ومساواة وترغيب في الفوز الأعظم في الآخرة والترهيب من عذابها... أما فيما يخص الأغنياء الذين دخلوا الإسلام، فكبار قريش لم يسلموا إلا بعد أن تقوى الإسلام، فخافوا سطوته و بطشه بهم، وفيما يخص أغيار قريش من القبائل الأخرى فتدينهم بالدين الإسلامي واستضافتهم لمحمد كان رغبة في "المجد الشخصي" وسحب البساط من تحت أقدام قوة القرشيين بنصرة "عدوهم"، طالما أن "الصراع القبلي" كان على أشده آنذاك.(يتبع)





[1] - نستخدم هذه الكلمة بمعناها القرآني الذي يعني"طبعت" في قوله"ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم...إلى آخر الآية السادسة من سورة البقرة .
[2] - أجدني مشدودا في هذا المقام إلى إغراء فكرة "فاتنة" لنيتشه، تتحدث عن "إنتاج الشعوب للشعر والأسطورة في أيام شبابها وفتوتها، والفلسفة والمنطق في أيام شيخوختها وكهولتها"( أوردها ول ديورانت في كتابه "قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي"، ترجمة فتح الله محمد المشعشع،بيروت: منشورات مكتبة المعارف،الطبعة الثالثة، 1975)،
[3] - ونحيل بهذا الصدد إلى كتاب "مدخل إلى القرآن الكريم لمحمد عابد الجابري، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى،سبتمبر 2006،الجزء الأول، الفصل الثالث من القسم الأول وبخاصة الصفحات 82 و83 و84، كما أن نفس الملاحظات أوردها هشام جعيط في سيرته النبوية، الجزء الأول "الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة بيروت ، الطبعة الأولى، أكتوبر1999، ص42 و 43.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق