عبد الـواحـد ايــت الزيـن
المغرب
- ابن جرير
(…) وجبت الإشارة أن حديثنا السالف، ليس معناه نفي المصدر الإلهي عن
الإسلام ولا التشكيك في أهمية الدعوة المحمدية لإصلاح المجتمعات العربية- نوردها
بصيغة الجمع تجاوزا لا غير - ، وإنما غرضنا إثارة انتباه الأذهان المتنورة
المتيقظة إلى
الأهمية التاريخية كذلك لمحمد الشخص التاريخي وليس الموحى إليه فقط، وكذلك
التنبيه إلى القيمة التي أضافها الإسلام إلى الموروث البشري، كلحظة انتقال مهمة في
تاريخ الإنسانية، وجدته فيما يخص رؤيته للفضيلة و تأطيرها على أساس السماحة والشيم
الأخلاقية العالية التي جاء بها منذ بداياته الأولى، الأمر الذي سيعيننا على تتبع،
كيف سيصير الإسلام بعد ذلك مرتعا للإيديولوجيا، التي تتقوم عليه، وتتغذى على
مائدته، بفتح النص القرآني على بعض الإمكانات التأويلية التي تجعل منه دينا متعصبا
لا متسامحا، وهو أبعد ما يكون عن الدين الإسلامي في نصه المؤسس، نص شرَع لقيم
التسامح، والحرية ،والمساواة، ورفض التعصب ،والقتل بغير حق، فإذا به
يصير"حجة" يحتج بها،لإصدار فتاوى القتل، والتضييق على الحريات العامة، بمداهمات
البيوت لتطبيق شرع الله (إرغام الناس على الصوم بتخييرهم بين ذلك، وبين قضاء
الليالي الرمضانية وراء القضبان حماية لثوابت الأمة الروحية، أو إرغامهم على
الصلاة خمس مرات في اليوم، وغيرها من المظاهر التي تذكرنا بأساليب الكنيسة/محاكم
التفتيش في العصور الوسيطية)، وذلك غاية ما يسعى إليه الإسلام السياسي من خلال
حديثه عن "الدولة الدينية". وإنه لمن بالغ أسفنا أن نجد بعض الكتابات
المحسوبة على الاتجاه العلماني الأنواري واليساري التحرري ، تنساق وراء قراءات
الإسلام السياسي ، فتقع في مغبة الحكم على الإسلام انطلاقا من هذه القراءات
المتعسفة، دون تحميل نفسها عناء العودة إلى النص، قصد التأسيس لفضاء الاختلاف بفتح
هذا النص نفسه على "تأويلات محينة"، و إن تلك لمضرة للعلمانية العقلانية
المنفتحة، أكثر مما يمكن أن تكون خدمة لها، خاصة أن "فقهاء الإسلام
السياسي" يسعون إلى إظهار العلمانيين بمظهر المعادين للدين، وبذلك يسهل عليهم
"تجييش" العامة ضدهم، مما يطرح ضرورة مواجهة"الإسلامويين"
بسلاحهم (الدين)، والانفتاح على التراث الإسلامي بإعادة تحيينه وفق متطلبات العصر،
قصد العمل بشكل تدريجي على"مجاوزته"، ولعل ذلك ماعرفته أوربا
باسم"الإصلاح الديني". فإذا كانت الجماعات الإسلامية تستند إلى النص
لتجريم "حرية العقيدة"وتبرر"سلوكاتها الدموية" بكلام الله والرسول، فإنه لاغنى للعقلانيين على "فضح" هؤلاء مع"العامة" انطلاقا من "النص المؤسس"، إذ أن شواهد سماحة الإسلام بالنص عديدة، منها قوله تعالى:" وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"[1] ، فنجد هنا أن جواز القتال مرهون بالدفاع عن النفس، دون أن يتجاوز الأمر إلى التعدي على الآخر، كما يقول كذلك "...وإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين"[2]، بمعنى أن طلب السلام من الطائفة التي بغت وحاربت المسلمين، يجب تلبيته مهما كانت مغانم الفوز في الحرب لهم، وكذلك قوله "كتب لكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم"[3]، فالحرب مكروهة في دين الإسلام مما يدل على سماحته ونبل قيمه، إلا أن اقتصار تصريف مضمونه على القراءات السياسية والجهادية لنص القرآن، جعلت منه دين عنف،ودماء،وترهيب،وتعصب ... إلخ باسم "وجوب الجهاد في سبيل نصرة الإسلام"، وهم يعلمون أن الجهاد الأكبر حسب القرآن وما نسب من أحاديث إلى رسول الله هو :"جهاد ومجاهدة النفس والذات، بالاشتغال اليومي عليها، ليس فقط بالتعبد والزهد، ولكن بالعمل والانخراط في المعيش اليومي"، ونذكر هنا - عسى الذكرى تنفع بعض الجماعات الزهدية في الإسلام - بقصة ذلك الشخص الذي كان لا يفارق المسجد مصرفا كل وقته في الابتهال والتعبد، فاستفسره النبي عن معيله، فأجابه بأنه أخاه، فبادره قائلا،" والله لأخاك أعبد منك". إن ما يحتاجه مسلمو الحقبة المعاصرة، هو الرجوع إلى الوراء، ومحاولة فهم وجودهم الأول كما تشكل مع التجربة المحمدية، من خلال الاشتغال اللغوي على النص المؤسس، ليس بغرض استعادته في أصليته، وإنما لإزالة ما علق به من دنس التأويلات المتطرفة، التي صارت تتوسط المسلم وقرآنه، هذه العودة يجب أن تأخذ بعين اعتبارها متطلبات العصر وما يقتضيه من تأويل عقلي برغماتي للنص بتحيينه إن أمكن ذلك، أو على الأقل بقطع الطريق على تأويلات الإسلام الراديكالي المتطرف، فالأمر يتعلق إذن بصراع للتأويلات( عنوان كتاب لبول ريكور) حول معنى القرآن، ولقد أوضح نيتشه، ومن بعده ميشيل فوكو، وفي أكثر من موقع ، بأن معنى الأشياء كانت ما كانت، لا تعرف بغير معرفة القوة التي تتملك الشيء، وتعبر عن نفسها فيه ". فالظاهرة (الظاهرة القرآنية بالنسبة لنا ) ...هي علامة، هي عرض يجد معناه في قوة حالية،.. وتاريخ شيء ما هو عموما، تعاقب القوى التي تستولي عليه...والظاهرة يتبدل معناها وفقا للقوة التي تستولي عليه. والتاريخ هو تغير المعاني..."[4]، وبالتالي فالقرآن في صيغته الحالية، هو مجرد تجل من تجليات القوى المتصارعة حوله، ولو تملكت قوة ما، في زمن ما، السلطة – السياسية أساسا - لكان أمامنا قرآن غير هذا الذي نتصارع حول معناه، ألم يطغى على عملية جمع القرآن الارتجال والفوضى؟ ألم يتصارع الخلفاء وبخاصة عثمان وعلي مع بعض القوى القرشية والأنصارية حول معاني بعض آياته التي تخص السياسة والاقتصاد؟ ألم يحرق بن عفان – المبشر بالجنة – عدة نسخ من القرآن، وما أدرانا فقد يكون الأصل منها قد حرق؟
لعل معظم هذه الأسئلة قد تفقد مشروعيتها الآن،
لأن ما يهم في لحظتنا المعاصرة، هو هذا النص الذي بين أيدينا طالما صار الحديث عن
نص أصلي فاقدا لجدواه. لكن من اللازم النظر إليه كنتاج قوة والتساؤل بصدد القوة التأويلية
التي أنتجته، حتى تستقيم عملية إعادة تأويله وتفسيره وتقويمه، ألم يعتقد نيتشه
بعدم وجود معنى واحد للدين، لخدمته على التوالي قوى متعددة، والواجب معرفته هو
القوة التي لا نعود نعرف معها ما الذي يسيطر: هي على الدين أو الدين عليها[5]؟، وهو ما يتوافق مع جماعات
الإسلام السياسي التي صارت كأنها هي والدين شيئا واحدا، كل ذلك يفرض ضرورة تضافر
الجهود بتوحيدها من طرف العقلانيين بكل
أصنافهم :الليبراليين واليساريين والإسلاميين المعتدلين، لمجابهة التيار الإسلامي
التأويلي المتطرف، وانتشاله من مستنقع
الجماعات الجهادية، لكن شرط عدم التطرف في ذلك، بمحاولة اجتثاث الدين كلية،
نظرا لفوائده الكثيرة على الحياة الإنسانية والمعاملات البشرية، والصحة النفسية
بالنسبة لمعتنقيه، ولعل هذا هو المأمول من الخطاب الحداثي العلماني المنفتح – كما ظهر في أوربا نفسها - إذ أنه لم يأت ضد
الدين للقضاء عليه، وإنما هو ضمان لممارسته بكل حرية وبكافة أشكاله المتعددة[6]، من أجل التأسيس لفضاء التعددية الدينية بل وحتى
اللا-دينية كذلك، فلا وجود لصيغة واحدة للتعبد والتدين، ولعل تلك هي أهم ميزة
للدين المسيحي على غيره من يهودية وإسلام . و لنعتبر في هذا الصدد من حديث فولتير
عن ابريطانيا العظمى بهذا الشأن، حين يقول: " ولو وجدت في
إنكلترة ديانة واحدة فقط لاعترى النفوس خوف من الاستبداد، ولو وجدت فيها ديانتان، فقط لتذابحتا، ولكن يوجد فيها ثلاثون
ديانة وهي تعيش سعيدة متسالمة".[7](يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق