أحمد عصيد
موجة
الغضب التي أحدثها العفو الملكي عن الإسباني مغتصب الأطفال، حدث هام بلا شك، ليس
فقط لأنه يعبر عن غضب شعبي ضد قرار ملكي، بل لأنه يفتح الباب أمام نقاش عمومي حول
سلطات الملك وحدودها، التي إن كان لا يرسمها الدستور بوضوح فإن الضمير الوطني
والوعي الشعبي يحدّدانها بجلاء وصرامة.
الدرس
الذي يمكن استخلاصه من هذه الواقعة الصادمة هو أن سلطات الملكية التنفيذية
وصلاحياتها في العفو أو غيره، لا يمكن أن تكونا مطلقتين، بل تحدّهما كرامة
المواطنين المغاربة، والتي لا تنفصل عما يسمّى عادة بـ"المصلحة العليا
للبلاد"، حيث لا يحق للملك أن يتخذ قرارا يهين بموجبه المغاربة الذين من
المفروض أنه يحميهم ويضمن لهم شروط العيش الكريم باعتباره رئيس الدولة.
قرار
الملك طبعه مزاج "المخزن" التقليدي الذي لا يراعي معنى الكرامة ولا يؤمن
بها، بقدر ما يركن في تعامله مع "الرعايا" إلى السلطوية الطاغية
والغلبة، التي تحتكر معرفة المصلحة من غيرها، كما تحتكر معايير تمييز الحق من
الباطل.
الذي
حرك المتظاهرين الخارجين إلى الشارع ضدّ قرار العفو الملكي هو شعورهم بالمذلة
والمهانة، أمام ملك أجنبي كان عند حسن ظنّ مواطنيه الإسبان، عندما طالب ملك المغرب
بالعفو عن بعض أبناء جلدته القابعين في السجون المغربية، وهو ما تمت الاستجابة له
من طرف ملك المغرب الذي لم يكن على نفس التقدير لكرامة مواطنيه المغاربة وقيمتهم،
عندما ساوى بين سجناء عاديين ومغتصب أطفال مغاربة محكوم بثلاثين سنة سجنا. قرار
العفو جعل المواطنين الإسبان أشخاصا ذوي قيمة عليا لدى أنفسهم وفي عيون الناس،
وجعل الأطفال المغاربة سلعة رخيصة، وهذا ما فهمه المغاربة من قرار العفو، ولم يكن
لهم أن يفهموا غيره، ما دام هو المعنى الوحيد لما حدث.
لقد
أعاد حكم القضاء بعض العزة للنفوس وأشعرها بقيمة الإنسان المغربي، عندما حكم على
مغتصب أطفال أجنبي بثلاثين سنة سجنا، ولهذا نوّه به الحقوقيون المغاربة وأشادوا
بريادته، بينما حطم قرار العفو تلك العزة ومرّغها في التراب من جديد.
في
أدبيات المخزن الملك "أب" المغاربة جميعا وهو العارف بمصلحتهم والضامن
لوحدتهم، ما يجعل المغاربة قاصرين عن تقدير مصالحهم ومصالح البلاد، ويجعلهم ملزمين
بقبول قرارات الملك مهما كانت، ما داموا لا يملكون البديل عن سلطاته المطلقة، فإما
المخزن أو لا شيء، أي حالة اللاّدولة.
لكن
الوعي الوطني (والمواطني) نضُج لدى المغاربة وتجاوز عتبات المخزن التقليدي، فأصبح
الناس يميزون بين ما يحق للملك وما لا يحق له إقراره، وهو أمر يظهر بالملموس
خصوصية المرحلة التي نجتازها، والتي طبعتها انتفاضات الشعوب بطابعها الذي لا يقبل
لعقارب الساعة أن تعود إلى الوراء.
أدرك
المغاربة أنّ أدبيات الدولة الحديثة ـ التي هي نقيض المخزن ـ تلزم الحاكم بتحمل
مسئولية رعاية أمن مواطنيه وحمايتهم والذود عن حقوقهم والحرص على كرامتهم، ومهمته
ليست احتكار القرار والسلطة المطلقة، بل السهر على احترام القانون الذي يتساوى
الجميع أمامه. كما أدركوا بأن كرامة المواطنين الأفراد أسمى من جميع المصالح
الاقتصادية أو غيرها، وأنها الأولى في ديباجة "المصالح العليا للبلاد".
هل
يقبل المخزن الاعتراف بالخطأ ؟ بالطبع لا، لأن ذلك ليس من ثقافته، ولهذا تعامل مع
المتظاهرين بمنطق العصا والقوة، لكنه ملزم بأخذ العبرة، والتنازل الحكيم باعتبار
الحدود التي أصبح يرسمها الضمير الوطني والقانون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق