ذلك
الحدث المذهل الذي شهدته مصر يوم 30 يونيو الماضي، والذي قد يتكرّر في مناطق عدّة
وإن بأشكال مختلفة، ذلك الطوفان البشري غير المسبوق في تاريخ الإنسانية والذي خرج
منتفضاً في وجه أيديولوجية الإخوان المسلمين،
ما أربك معظم الحسابات الإقليمية
والدّولية، لم يكن مجرّد ثورة شعبية ولا كان محض انقلاب عسكري، بل لعلّه يتجاوز
هذا وتلك، أو قل: إنه انقلاب شعبي. وبالأحرى، يتعلق الأمر بانقلاب جذري في الوعي
والكينونة والمزاج، بل هو بالتمام والكمال اسم على مسمى: "تمرّد".
لم تكن الانتفاضة المليونية على محمد مرسي
– وهو الرّئيس الذي رافقه الفشل في كل خطواته حتى في إلقاء الخطب- مجرّد تمرّد
سياسي أو تمرّد محصور في مربع السلطة أو في دائرة السياسة، لم تكن مجرّد تمرّد من
أجل استبدال رئيس برئيس أو تيار بتيار، بل كانت تمرّداً من أجل حرية الإنسان، ومن
أجل حق كل انسان إلى استعمال عقله بلا تكفير ولا تخوين، كانت تمرداً للإنسان
العاقل على قوى الاستبلاد والاستغفال. إنها بالأحرى تمرّد إنسان الطبيعة ضدّ
الإنسان المستلب؛ تمرّد إسلام الفطرة ضدّ إسلام الخرافة والعنف والتطرّف؛ تمرّد
إرادة الحياة ضدّ ملامح العبوس ووجوه الاكتئاب.
أي
نعم، إنها صرخة الكائن الإنساني في وجه تعاليم البيعة على السمع والطاعة، وثقافة
الولاء والبراء، وأساطير الفرقة الناجية. وإنها انتفاضة العقل الحر ضد الجماعة
المعطلة للعقل، والرافضة للتفكير، والمرجئة لسعادة الإنسان، وناصبة العداء لكل ما
هو إنساني في الإنسان؛ إنها صوت الحياة وهو يصرخ في وجه ثقافة كانت ولا تزال تمجد
الموت، وتفخر بكراهة الدنيا وحب الآخرة .بالطبع، ليس عيبا
أن نختلف في تقدير المآلات، بل الأجدر أن نكون مختلفين، طلباً للرحمة على حد إدراك
الفقهاء القدماء والذين سبقونا إلى القول إن "الاختلاف رحمة"؛ فالاختلاف
ترياق ضدّ التغوّل المذهبي أو الطائفي أو الحزبي. وبكل
تجرّد، ليس عيباً أن نناقش دور الجيش في بعض مسارات هذا التمرّد المليوني العظيم،
ولا أن نحذر من بعض المآلات، بل ضروري مثل ذلك النقاش المفتوح، لكن العيب كل العيب
أن لا نرى في كل هذه التمرّد الشعبي المليوني والذي سانده غالبية المثقفين
والإعلاميين والفنانين المصريين ضدّ مشروع أخونة الدّولة وأخونة المجتمع، سوى ذلك
الدّور الفني الذي لعبه الجيش في آخر لحظة لأجل تفادي السقوط في النّفق الدّموي
الذي لوّح به زعماء الإخوان وميليشيات الجماعة الإسلامية على رُؤوس الأشهاد.
دعونا
من كل هذا، فإنّ المعادلة واضحة ولا تستحق المزايدات: حين يصرّ أزيد من عشرين
مليون مواطن على المطالبة باستقالة شخص معين - وإن كان هذا الشخص هو رئيس
الجمهورية "الشّرعي" أو "الصالح" أو "المعصوم" أو
قل ما شئت- فهذا يعني أننا في الأخير أمام خيارين: إما التضحية بمنصب شخص واحد أو
التضحية بمصير وطن بأكمله. فماذا يقول الحس السليم؟
في
كل الأحوال، سيذكر التاريخ أن ما جرى في تونس يوم 14 يناير 2011، كان فاتحة عهد
ثورة الحرية على الاستبداد السياسي، وسيذكر التاريخ أيضاً أن ما جرى في مصر يوم 30
يونيو 2013، كان فاتحة عهد تمرّد العقل على الاستبلاد الديني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق